الرئيسة \  تقارير  \  انعطافات غير متوقعة في المواجهة الروسية ـ الأوكرانية

انعطافات غير متوقعة في المواجهة الروسية ـ الأوكرانية

01.09.2022
فيتالي نعومكين


فيتالي نعومكين
رئيس “معهد الاستشراق” التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو
الشرق الاوسط
الاربعاء 31/8/2022
بات يُلاحَظ اليوم بعض العناصر الجديدة في عملية المواجهة، التي بدا كأنها تجري في مسار ثابت، بين روسيا من جهة، والسلطات القومية المتطرفة في كييف، المدعومة من الغرب، والتي تقصف بهمجية الأحياء المسالمة والمواقع المدنية في دونباس، من جهة أخرى.
ومن بين هذه العناصر العمل الإرهابي الفردي في وسط روسيا، الذي قام بتنفيذه عملاء الاستخبارات الأوكرانية، حيث ولأول مرة، كان من بين المشاركين فيه امرأة. وفي الوقت الحالي، سنتحدث فقط عن شكوك، على الرغم من أنها مبنية على أسس قوية.
كما بات معلوماً، ليلة الأحد، 21 أغسطس (آب)، تم تفجير شحنة قوية عن بُعد (تزن نحو 500 غرام) من مادة “تي إن تي”، وُضعت تحت مقعد السائق في سيارة “تويوتا لاند كروزر برادو”، تقودها الشابة داريا دوغين ذات الـ29 عاماً، وهي صحافية معروفة، وابنة الفيلسوف والسياسي الشهير في روسيا وخارجها، وآيديولوجي “العالم الروسي” ألكسندر دوغين، وذلك لدى مغادرتها مهرجان “التقليد”. ونتيجة للانفجار، لقيت الشابة حتفها على الفور.
وقعت المأساة على الطريق السريع (موجايسكوي) في منطقة مجاورة مباشرة للعاصمة الروسية موسكو. وبالمناسبة، كان من المفترض أن يكون والدها في السيارة أيضاً، لكنه تأخر بمحض الصدفة عن مغادرة المهرجان، وركب سيارة زميله.
وأظهر تحقيق منظَّم فوري، شارك فيه أفضل المتخصصين في مكافحة الإرهاب، أن هذه الجريمة الفظيعة كانت عملاً إرهابياً هادفاً، وقعت ضحيته شابة مدنية لم تشارك في الأعمال القتالية في أوكرانيا أو في دونباس. وسرعان ما دارت الشكوك حول ناتاليا فوفك (هذه كنيتها الحقيقية، التي دخلت بها إلى روسيا، حيث تم تحديدها بسرعة من هيئات التحقيق، وتعني “الذئب” باللغة الأوكرانية)، وهي مواطنة أوكرانية من مواليد ماريوبول، المدينة التي تم تحريرها مؤخراً من القوات الروسية. وقد سكنت فوفك مؤقتاً في موسكو بجواز سفر كازاخستاني مزوَّر باسم يوليا زايكو، البالغة من العمر 43 عاماً (بالمناسبة، الكنية الأخيرة باللغة الأوكرانية تعني “الأرنب”). وتعتقد هيئة التحقيق أن الهجوم تم تنظيمه من الاستخبارات الأوكرانية.
واتضح أنه عند دخولها موسكو في 24 يوليو (تموز)، كانت زايكو تحمل على سيارتها لوحات رقمية من دونيتسك، بينما قادت سيارتها في المدينة بلوحات سيارة كازاخستانية، وغادرت روسيا إلى إستونيا فور وقوع الهجوم الإرهابي وهي تحمل على سيارتها لوحات أوكرانية.
وتساءل بعض خبراء الإرهاب الروس عن سبب تكليف امرأة ذات مظهر بارز للغاية بتنفيذ مثل هذا العمل. إذ كانت شفاه ناتاليا منتفخة، بفضل عمليات تجميل، لدرجة أن الصحافيين أطلقوا عليها اسم “الضفدع”، وكان من الصعب جداً على مثل هذا الشخص ألا يجذب الانتباه إلى نفسه؟ من جهة، يبدو السؤال منطقياً، خصوصاً أن الإرهابية كانت تقود سيارة مميزة أيضاً من طراز “ميني كوبر” قلّما نرى مثلها في موسكو، حيث يفضلون السيارات الكبيرة. ومن جهة أخرى، وفقاً لبعض الخبراء، ربما كانت الفكرة هي ألا يفكر حراس موقف السيارات والمارة في الاشتباه بهذه السيدة ذات المظهر اللائق بشيء سيئ. حتى إن مراهنة منظمي الهجوم الإرهابي، والأرجح أننا نتحدث عن مجموعة وليس عن منفّذ واحد فقط، كانت حسبما يبدو، على الاختفاء السريع للمنفذ من مكان التفجير. وربما، بهدف الحصول على أفضل تمويه، جلبت فوفك معها ابنتها التي تبلغ من العمر 12 عاماً، والتي كان من المفترض أن تعزز نزاهة الإرهابية لدى كل شخص يلتقيها. فحسب التحقيق، كانت فوفك قد خدمت في كتيبة “آزوف” النازية.
لكن دعونا نعُد إلى الجريمة نفسها ونحاول سرد الحقائق التي، في رأي التحقيق، تثبت تورط ناتاليا فوفك، المشتبه في ارتكابها جريمة قتل خسيسة، والاستخبارات الأوكرانية التي أشرفت عليها، في الهجوم الإرهابي.
أولاً، قبل الجريمة بفترة قصيرة، استأجرت فوفك شقة، على الأرجح للتجسس على داريا، في المبنى نفسه الذي كانت تعيش فيه الضحية. وكانت نوافذ هذه الشقة تطل على نوافذ شقة داريا.
ثانياً، كان المنزل يحتوي على موقف سيارات تحت الأرض، استخدمته كلتا السيدتين، ما جعل من الممكن تلغيم سيارة داريا بهدوء، وتثبيت عبوة ناسفة يتم التحكم فيها عن بعد في أرضية السيارة.
ثالثاً، وفقاً للصحافيين، استأجرت فوفك أيضاً منزلاً في ضواحي موسكو، من الواضح أن الهدف منه تمكينها من تغيير أرقام السيارة بهدوء والحصول على شحنة متفجرة يتم التحكم فيها عن بُعد. إذ من الخطر على فوفك نفسها نقل شحنة متفجرة، بالإضافة إلى مجموعة من الأرقام المزيفة عبر الحدود. ويبدو من الواضح أنه كان يساعدها شريك، وربما أكثر من واحد. وبالمناسبة، يشير أهل المشتبه بها بارتكاب جريمة القتل بحق دوغين (وهي لا تعيش معهم منذ فترة طويلة) إلى أن فوفك تلقت أموالاً، فقط مقابل التجسس على الفتاة، بينما قام شخص آخر بتفجير السيارة.
رابعاً، تم إعداد لوحات أرقام السيارات المزورة نفسها وجوازات السفر غير المشكوك فيها بشكل احترافي.
خامساً، كان الخروج السريع من روسيا إلى إستونيا منظماً جيداً أيضاً، ذلك أنه لن يقوم أحد من هناك بتسليم امرأة أوكرانية يشتبه بارتكابها جريمة قتل بناءً على طلب السلطات الروسية. في الوقت نفسه، يبدو أنها غادرت إستونيا وتختبئ في بلد أوروبي آخر.
إذا تأكدت الشكوك في التحقيق، فسيكون من الواضح أننا نواجه ما يسمى “إرهاب المرأة”، وهي ظاهرة مألوفة في التاريخ الحديث لروسيا وللكثير من الدول الأخرى، بما في ذلك الشرق العربي. في هذه الحالات، يبدو من المهم تحديد الدوافع التي تجعل المرأة، طوعاً أو تحت الإكراه، تشارك في هجمات إرهابية، وحتى انتحارية في بعض الأحيان.
أخبر أقارب فوفك التحقيق والصحافيين بأن المشتبه بها قد تكون وافقت على التجسس على الفتاة بسبب مشكلات مع ابنها الأكبر، ومن المكن أنه تم ابتزازها في هذا الصدد. ويقولون إنه بعد أن أُخذ ابنها دانيل قسراً للخدمة في بداية العملية الخاصة، بكت المرأة بشدة لفترة طويلة وبحثت عنه لمدة طويلة أيضاً. ويتوقعون كذلك أن فوفك حصلت على أموال فقط مقابل التجسس على الفتاة، بينما نفّذ شخص آخر تفجير السيارة المفخخة.
أما العنصر الثاني فهو التهديد باستخدام الأسلحة النووية من بعض السياسيين الغربيين الكبار، بمن فيهم وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس. وكما هو معروف، قالت تراس، في مقابلة مع “التلغراف”، إنها إذا أصبحت رئيسة وزراء لبريطانيا، وإذا لزم الأمر، فسوف تضغط على الزر النووي من دون أدنى شك. ولاحظت روسيا جدية هذا البيان وحقيقة أن تراس لم تشرح في أي حالة ستنشأ مثل هذه الحاجة. وعندما سُئلت عن شعورها في وضع يتطلب الضغط على الزر النووي، شددت الوزيرة فقط على أن هذا “واجب مهم” لرئيس الحكومة البريطانية، وشددت على استعدادها للقيام بذلك.
وأشار بعض المراقبين الروس في هذا الصدد إلى أنها كانت في شبابها، مع والديها، عضواً في حركة نزع السلاح النووي. وتساءلوا عما إذا كان كل هذا يعني أننا بتنا نقترب خطوة كبيرة أخرى من حرب نووية شاملة. في الوقت نفسه، كتب أحدهم أن “تراس المندفعة، إلى حد ما، هي أفضل بالنسبة لروسيا من السياسيين الذين يتوخون الحذر في الأقوال والأفعال”، لكنّ “هذا الاندفاع يمكن أن يصبح خطيراً في بعض المواقف”، خصوصاً في سياق تفاقم الوضع العالمي.
بشكل عام، لا تؤمن موسكو بواقع التهديد النووي، ولا تزال تميل إلى رؤية بيان تراس على أنه خطاب ما قبل الانتخابات، لكي تُظهر استعدادها لأن تصبح “السيدة الحديدية” الثانية.