الرئيسة \  تقارير  \  فايننشال تايمز :عودة الإمبراطورية: روسيا، أوكرانيا، وظل الاتحاد السوفياتي الطويل

فايننشال تايمز :عودة الإمبراطورية: روسيا، أوكرانيا، وظل الاتحاد السوفياتي الطويل

02.02.2022
سيرخي بلوخي


سيرخي بلوخي* – (فايننشال تايمز) 28/1/2022
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
الغد الاردنية
الثلاثاء 1/2/2022
يبدو أن قادة الجمهوريات السوفياتية، والروس على وجه الخصوص، قد تمكنوا من تجنب التفكك العنيف المعتاد للإمبراطوريات، ولم يتمكنوا من منع نشوب الحرب النووية التي كان يُخشى منها على نطاق واسع بين القوى النووية حديثة النشأة في روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا وكازاخستان فحسب، وإنما تمكنوا أيضًا من منع نشوب حرب تقليدية بين الدول الرئيسية التي خلفت الاتحاد السوفياتي. لكن السنوات اللاحقة شهدت تورط روسيا في صراعات مع دول ما بعد الاتحاد السوفياتي، حيث قدمت الدعم للحركات الانفصالية، وفي النهاية استخدمت قواتها العسكرية خارج حدودها. وكان مثل هذا سيناريو بالكاد قابلاً للتخيل في حالة النشوة التي سادت سنوات ما بعد الحرب الباردة، نظرًا لانتصار القوى الديمقراطية في روسيا وبعض الجمهوريات السوفياتية السابقة الأخرى. والآن، بينما يحاول الكرملين إعادة تأكيد سيطرته على جيرانه، يكشف المؤرخ الأوكراني سيرخي بلوخي الجذور العميقة للأزمة.
* *                       
بينما يتم تحشيد القوات الروسية على مشارف أوكرانيا، يستعد المواطنون الأوكرانيون للحرب. وقد أصبحت “مجموعة أدوات الطوارئ” عبارة أسمعها تُستخدم أكثر فأكثر بين أصدقائي ومعارفي في جميع أنحاء البلاد؛ والسؤال الذي يدور في أذهان الجميع هو ما إذا كان هجوم سوف يُشن على البلد. وقد وُجه إليّ هذا السؤال مرات عديدة خلال الأسابيع القليلة الماضية، لكنني لا أستطيع تقديم إجابة مُرضية. ولعل الشيء الوحيد الذي أنا متأكد منه هو أن كل جزء من الدعم المعنوي والسياسي والعسكري الذي تحصل عليه أوكرانيا من أصدقائها وحلفائها سيجعل الغزو أقل احتمالاً.
اندلعت الأزمة الأخيرة في 17 كانون الأول (ديسمبر) عندما قدمت روسيا إنذارًا غير متوقع للغرب. وتضمنت قائمة مطالبها التزامًا كتابيًا بوقف أي توسع إضافي لحلف الناتو باتجاه الشرق، وإزالة قوات الناتو متعددة الجنسيات من بولندا ودول البلطيق، وإمكانية سحب الأسلحة النووية الأميركية من أوروبا. وكان الأمر الأكثر أهمية هو عدم السماح لأوكرانيا بالانضمام إلى الحلف مطلقاً.
واعتبرت واشنطن هذه المطالب غير مناسبة لتكون بداية، ووجدها جميع أعضاء الناتو غير مقبولة. والنتيجة أننا أصبحنا نجد أنفسنا الآن عالقين في أعنف مواجهة دبلوماسية بين الشرق والغرب منذ نهاية الحرب الباردة.
هناك فروق ذات دلالة إحصائية بين هذه الأزمة والأزمة السابقة. ولعل الأهم من بينها هو ظهور الصين باعتبارها الشريك الرائد في ما بدأ باعتباره تحالفاً صينياً-سوفياتياً، والذي جاء مصحوبًا بانحسار الاتحاد السوفياتي السابق وتقلصه إلى أراضي روسيا فقط -وهي دولة لا يقع اقتصادها في قائمة العشرة الأوائل في العالم.
وهذه التغييرات حاسمة لفهم السياسة الخارجية لروسيا اليوم. ويمكن اعتبار عدوانها على أوكرانيا جزءًا من محاولة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى العهد السوفياتي، وإعادة السيطرة الروسية على الفضاء السوفياتي السابق -أو على الأقل الحد من النفوذ الغربي على ما كان يُعد إمبراطورية موسكو في أوروبا الشرقية.
وإذن، هل يريد فلاديمير بوتين إعادة تأسيس الاتحاد السوفياتي، كما يقترح مراقبون في بعض الأحيان اليوم؟ ليس بالضبط. إن هدفه هو إعادة، أو الحفاظ على، سيطرة الكرملين على الفضاء السوفياتي السابق بشكل أكثر كفاءة من خلال تأسيس تبعيّات يفضَّل أن يحكمها مستبدون، بدلاً من الجمهوريات السوفياتية السابقة -ضمن هيكل سلطة إمبريالي يكون فيه بوتين هو حاكم الحُكام المتربع على القمة.
لا يمكن للتاريخ أن يخبرنا بما قد يحدث أو لا يحدث غدًا. لكنّ ما يمكن أن يفعله هو توفير فهم أفضل لكيفية وصولنا إلى الموقف الذي نحن فيه اليوم، وبما هو الآن على المحك -خاصة في هذه الحالة، حيث يقع نظام التاريخ، أو نسخة منه على الأقل، في صميم النزاع مباشرة.
* *
تشكل الأزمة الحالية تذكيراً بأن تفكك الاتحاد السوفياتي -المرتبط ارتباطًا وثيقًا في ذهن الجمهور باستقالة ميخائيل غورباتشوف كرئيس لبلد كان غير موجود مسبقاً في يوم عيد الميلاد من العام 1991- لم يكن مسرحية من فصل واحد. إنه، بالأحرى، قصة ملحمية مستمرة مع العديد من التوابع؛ إنه عملية أكثر من كونه حدثًا.
في تموز (يوليو) الماضي، نشر بوتين مقالاً طويلاً تناول فيه، على وجه التحديد، تاريخ العلاقات الروسية الأوكرانية. وتم عرض الحجة الرئيسية للمقال “حول الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين”، في فقرته الأولى. وفي إشارة إلى مؤتمر صحفي كان قد عقده في وقت قريب، صرح بوتين بأنه “عندما سُئلت عن العلاقات الروسية الأوكرانية، قلت إن الروس والأوكرانيين هم شعب واحد -كلٌّ واحد. ولم تكن هذه الكلمات مدفوعة ببعض الاعتبارات قصيرة المدى أو بالسياق السياسي الحالي”.
كان ما اقترحه المقال هو أنه لم يكن هناك شيء مثل أمة أوكرانية منفصلة. وقد نظر الكثيرون إلى حجته، التي أزالت الاختلافات في اللغة والتاريخ والثقافة -وخاصة الثقافة السياسية- بين الروس والأوكرانيين، على أنها إنكار لحق أوكرانيا في أن تكون دولة مستقلة. لكن الادعاء بأن الروس والأوكرانيين يشكلون شعبًا واحدًا ليس شيئاً جديدًا، سواء في تصريحات بوتين أو في تاريخ الفكر السياسي الروسي.
تعود أصول هذا الادعاء إلى منتصف القرن التاسع عشر على الأقل، عندما صاغ المفكرون الإمبراطوريون الروس، من أجل استيعاب الحركة الوطنية الأوكرانية الصاعدة، مفهومًا للأمة الروسية الثلاثية المكونة من “الروس العظام” (أو الروس في فهم اليوم للكلمة)؛ و”الروس الصغار”، أو الأوكرانيين؛ و”الروس البيض”، أو البيلاروسيين. وكان حول ذلك الوقت، أيضًا، حين حظرت السلطات الإمبراطورية المطبوعات باللغة الأوكرانية في الإمبراطورية، والذي لم يكن لشيء سوى وقف تطور الحركة السياسية والثقافية الأوكرانية.
لكن تلك السياسة كانت لها حدودها. وقد أدت فعلاً إلى إبطاء تطوير مشروع وطني أوكراني حديث، ولكنها لم تتمكن من إيقافه تمامًا. وعندما سقطت الإمبراطورية في نيران “الثورة الروسية”، أنشأ النشطاء الأوكرانيون دولة خاصة بهم، وفي كانون الثاني (يناير) 1918 أعلنوا الاستقلال. وفي النمسا والمجر المجاورتين، أعلن الأوكرانيون الاستقلال باسم جمهورية أوكرانيا الغربية. ولكن، سرعان ما تبين أن هذا الاستقلال كان قصير الأمد، لكنه وضع الأجندة لأجيال من القادة الأوكرانيين.
بحلول الوقت الذي سيطر فيه البلاشفة على معظم ما كان يُعرف بأوكرانيا الروسية في العام 1920، اكتسبت فكرة الاستقلال شعبية بين الجماهير الأوكرانية ولم يكن بالإمكان أن ترفضها السلطات الجديدة ببساطة -حيث أُجبر البلاشفة على الاعتراف بأوكرانيا كدولة منفصلة، وحتى منح استقلال شكلي للجمهورية السوفياتية الأوكرانية. في الواقع، تم إنشاء الاتحاد السوفياتي في 1922-1923 كشبه دولة اتحادية بدلاً من كونه دولة وحدوية، على وجه التحديد من أجل استيعاب أوكرانيا وجورجيا؛ الجمهوريتين الأكثر استقلالية في التفكير، اللتين رفض قادتهما الشيوعيون ببساطة الانضمام إلى “الاتحاد الروسي”.
* *
لعبت أوكرانيا، باعتبارها الجمهورية الأكثر اكتظاظًا بالسكان بعد “الاتحاد الروسي”، الدور الرئيسي -ليس في إنشاء الاتحاد السوفياتي فحسب، وإنما في حلّه أيضًا. وكان الاستفتاء الأوكراني الذي أجري في الأول من كانون الأول (ديسمبر) 1991، والذي صوت فيه أكثر من 90 في المائة من المشاركين لصالح مغادرة الاتحاد السوفياتي، هو الذي أعلن نهاية تلك القوة العظمى في حقبة الحرب الباردة.
كان الأوكرانيون قد أجابوا عن السؤال عما إذا كانوا يريدون أن تكون بلادهم مستقلة -وليس ما إذا كانوا يريدون حل الاتحاد السوفياتي. لكن اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية انهار في غضون أسبوع عندما وافق البرلمان الروسي على اتفاقية تم التفاوض عليها بين بوريس يلتسين ونظيريه الأوكراني ليونيد كرافتشوك والبيلاروسي ستانيسلاف شوشكيفيتش، في نزل للصيد في فيسكولي في غرب بيلاروسيا. وقد حلَّت تلك الاتفاقية الاتحاد السوفياتي، واعترفت باستقلال الجمهوريات السوفياتية السابقة، وأقامت “كومنولث الدول المستقلة” ليحل محل الاتحاد السوفياتي الذي أصبح بائداً الآن.
وقدم الرئيس يلتسين تفسيرًا لذلك أكثر من مرة في محادثاته مع الرئيس جورج بوش الأب: لولا أوكرانيا، لكانت جمهوريات آسيا الوسطى المسلمة في “اتحاد” غورباتشوف ستتفوق في العدد على روسيا. ومن المؤكد أن العوامل الديموغرافية والثقافية برزت في تلك الحسابات، ولكن كذلك فعل الاقتصاد. لم تكن روسيا مستعدة لتحمل عبء “الاتحاد” من دون ثاني أكبر اقتصاد فيه؛ اقتصاد أوكرانيا. ولذلك كان على الاتحاد القديم أن يذهب.
في خطاب أمام البرلمان الروسي في 12 كانون الأول (ديسمبر) 1991، صرح يلتسين بأن تشكيل “كومنولث الدول المستقلة” كان السبيل الوحيد “لضمان الحفاظ على الفضاء السياسي والقانوني والاقتصادي الذي تم بناؤه على مدى قرون، ولكنه ضاع الآن”. لم يكن يلتسين يريد “اتحاد” غورباتشوف بعد أن يتم إصلاحه: كان النموذج السياسي المفضل لديه هو الكونفدرالية وليس الاستقلال الكامل للجمهوريات. وأصبح الكومنولث، الذي كان إنشاؤه بمثابة حل وسط فرضته أوكرانيا على يلتسين، محوريًا في محاولة روسيا إعادة بسط سيطرتها على فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي واستعادة مكانتها كقوة عالمية.
يبدو أن قادة الجمهوريات السوفياتية، والروس على وجه الخصوص، قد تمكنوا من تجنب التفكك العنيف المعتاد للإمبراطوريات، ولم يتمكنوا من منع نشوب الحرب النووية التي كان يُخشى منها على نطاق واسع بين القوى النووية حديثة النشأة في روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا وكازاخستان فحسب، وإنما تمكنوا أيضًا من منع نشوب حرب تقليدية بين الدول الرئيسية التي خلفت الاتحاد السوفياتي. لكن السنوات اللاحقة شهدت تورط روسيا في صراعات مع دول ما بعد الاتحاد السوفياتي، حيث قدمت الدعم للحركات الانفصالية، وفي النهاية استخدمت قواتها العسكرية خارج حدودها. وكان مثل هذا سيناريو بالكاد قابلاً للتخيل في حالة النشوة التي سادت سنوات ما بعد الحرب الباردة، نظرًا لانتصار القوى الديمقراطية في روسيا وبعض الجمهوريات السوفياتية السابقة الأخرى.
توقف الاتحاد السوفياتي عن الوجود بطريقة تذكرنا بالإمبراطوريات القارية الأخرى، بما في ذلك جارتاها؛ الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية، اللتان تفككتا على أسس عرقية. لكن نهاية المنافسة بين موسكو وواشنطن لم تتضمن أبدًا تسوية سياسية تتعلق بفضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي. وبعد أن سعت الولايات المتحدة إلى منع تفكك الاتحاد السوفياتي لأطول فترة ممكنة، قررت في النهاية الاعتراف باستقلال الجمهوريات السوفياتية السابقة ودعمها. ومن جهتها، لم تقبل روسيا أبدًا بأي شيء سوى الاستقلال المشروط للجمهوريات السابقة، المبني على وجود تحالف مع موسكو والانتماء إلى دائرة النفوذ الروسي.
على الرغم من أن رابطة كومنولث الدول المستقلة قد تم تصميمها لغرض محدد هو استيعاب أوكرانيا، إلا أن القيادة الأوكرانية لم تكن مهتمة بأي شكل من أشكال الدولة المشتركة مع روسيا -حتى أنها رفضت رسميًا الانضمام إلى الكومنولث الذي كانت قد ساعدت على إنشائه.
كان إحجام كييف العنيد عن التخلي عن الأسلحة النووية التي ورثتها من الاتحاد السوفياتي -وهي ثالث أكبر ترسانة أسلحة نووية بعد الولايات المتحدة وروسيا- مبنيًا على مخاوفها من عدوان روسي محتمل. وعندما وافق الأوكرانيون أخيرًا على التخلي عن الأسلحة النووية في العام 1994، فإنهم أصروا على وجود ضمانات لوحدة أراضيهم وسيادتهم. وكانت النتيجة “مذكرة بودابست”، التي قدمت لأوكرانيا تأكيدات بدلاً من تقديم ضمانات. وكانت روسيا واحداً من “الضامنين”، إضافة إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
حاولت روسيا في عهد يلتسين إبقاء أوكرانيا في داخل دائرة نفوذها من خلال العلاقات الاقتصادية، وخاصة اعتماد أوكرانيا على الغاز الروسي. وحاولت روسيا بوتين أن تحذو حذوها، ولكن مع استمرار أوكرانيا في الابتعاد عن روسيا في اتجاه الاتحاد الأوروبي، حاولت روسيا رشوة الرئيس فيكتور يانوكوفيتش بقرض قيمته 15 مليار دولار لمنعه من توقيع اتفاقية شراكة مع بروكسل. وأدت انتفاضة شعبية إلى طرد يانوكوفيتش من البلاد عندما رفض في نهاية المطاف التوقيع على هذه الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أنه كان قد وعد الناخبين الأوكرانيين بأنه سيفعل.
قبلت روسيا اللاجئ الهارب، واتهمت الولايات المتحدة وأوروبا بإثارة ودعم التمرد الشعبي في أوكرانيا وقامت بضم شبه جزيرة القرم. ثم شرعت موسكو في زعزعة استقرار حوض دونيتس (دونباس)، في أقصى شرق أوكرانيا، المتاخم لروسيا. وما تزال الحرب الناتجة مستمرة، ويتوقع الكثيرون أن تكون منطقة دونباس نقطة اشتعال جديدة في حالة حدوث غزو روسي. ويشعر البعض بالقلق من أن الصراع قد يجر دولاً أوروبية أخرى ويصبح عالميًا.
* *
كيف يدخل الناتو في هذه القصة؟ مع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها، غزت الجيوش السوفياتية أوروبا الشرقية واحتلتها لجيلين كاملين. وتأسس حلف شمال الأطلسي (الناتو) في العام 1949 كتحالف دفاعي لمنع المزيد من الاختراق السوفياتي غربًا.
على نحو ليس مستغرباً، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، انضمت دول شرق أوروبا إلى الحلف من أجل منع تكرار خضوعها السياسي والاقتصادي الطويل -وهي عملية تقوم روسيا الآن بتشويهها وإساءة تقديمها عن عمد باعتبارها “توسعًا عدوانيًا نحو الشرق” لحلف الناتو بقيادة واشنطن وبروكسل. وتقدم بولندا مثالاً صارخًا بشكل خاص على إصرار أوروبا الشرقية على الانضمام إلى الناتو: فقد هدد البولنديون واشنطن بتطوير قدراتهم النووية الخاصة إذا لم تُعرض عليهم عضوية الحلف.
أصبح الغزو الروسي في العام 2014 القوة الدافعة وراء إصرار أوكرانيا على الانضمام إلى الحلف. مباشرة بعد سقوط حكومة فيكتور يانوكوفيتش في شباط (فبراير) من ذلك العام، أعلنت القيادة الأوكرانية الجديدة أنه ليس لديها خطط للانضمام إلى الناتو. لكنَّ ضم شبه جزيرة القرم والحرب في دونباس جلب غالبية الأوكرانيين إلى المعسكر الموالي لحلف الناتو. وإذا كان أقل من 20 في المائة ممن شملهم الاستطلاع قد أيدوا الانضمام إلى الناتو في العام 2013، فإن 60 في المائة تقريباً أصبحوا يؤيدونه اليوم. وعلى الرغم من هذا التغيير في الموقف، يواصل الناتو حرمان أوكرانيا من “خطة عمل العضوية”. لكن مطلب روسيا الحالي بمنع أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو إلى الأبد يمكن أن يأتي بنتائج عكسية، بحيث يؤدي في النهاية إلى إفراز النتيجة المعاكسة تماماً.
تعطي روسيا الآن انطباعًا بأنها تتحرك بشكل أسرع من أي وقت مضى نحو إعادة بسط سيطرتها على فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي. وقد ساعد دعم الكرملين ألكسندر لوكاشينكو، رئيس بيلاروسيا، على قمع الاحتجاجات السلمية ضد حكمه الفاسد. كما ساعد التدخل العسكري الروسي في كازاخستان هذا الشهر الرئيس قاسم جومارت توكاييف على وضع حد للاحتجاجات العنيفة في ذلك البلد.
لكن روسيا تدفع ثمن دعمها للأنظمة الاستبدادية في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي. فقد توقفت المعارضة البيلاروسية، التي كانت تعتبر روسيا حليفاً، عن اعتبارها كذلك وهي تنظر الآن أكثر من أي وقت مضى نحو الغرب. ويبقى أن نرى كيف سيتمكن توكاييف قريبًا من إصلاح الضرر الذي لحق بسمعته في أعين النخب الكازاخستانية والمواطنين بسبب دعوته قوات أجنبية إلى بلاده.
تسير روسيا اليوم على خطى القوى الإمبريالية السابقة، من العثمانيين إلى الفرنسيين، الذين خسروا رأس المال السياسي والمالي والثقافي كلما تشبثوا أكثر بممتلكاتهم الإمبراطورية. ذلك أن محاولات إنعاش إمبراطورية فاشلة تنفر الجيران -وحتى الحلفاء المحتملين- ما يؤدي بأصحابها إلى العزلة. وإذا كان ثمة شيء أظهره لنا التاريخ، فهو أن كل إمبراطورية يجب أن تسقط في نهاية المطاف.
*سيرخي بلوخي Serhii Plokhy: أستاذ التاريخ الأوكراني بجامعة هارفارد. سيصدر كتابه الجديد “ذرات ورماد: من حلقية أتول إلى فوكوشيما” Atoms and Ashes: From Bikini Atoll to Fukushima، في أيار (مايو) عن دار “ألين لين”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The empire returns: Russia, Ukraine and the long shadow of the Soviet Union