الرئيسة \  واحة اللقاء  \  بانتظار "العقد الأميركي - الإيراني"

بانتظار "العقد الأميركي - الإيراني"

05.03.2015
شمس الدين الكيلاني



الحياة
الاربعاء 4-3-2015
منذ نهاية حرب 2006، غدت المسألة الإسرائيلية خارج اهتمام "حزب الله" وإيران. وظّف الطرفان نتائج الحرب لتقوية موقع الحزب في السلطة، تمهيداً لأن يقوم السيد حسن نصرالله في لبنان بدور المرشد مستنسخاً الطبعة الإيرانية، ليعوّض بذلك "النظام الأمني السوري" الذي تخلَّص منه اللبنانيون بثورة 14 آذار (مارس) 2005.
كرّس الحزب بدعم من إيران والموالين لنظام بشار الأسد، وجود سلطتين في لبنان: سلطة فعلية تتمثل في الحزب بذراعه العسكرية وامتداداتها، وسلطة رسمية دستورية تتمثل في رموز السلطة الرسمية التي لا تملك القدرة على احتكار القوة باعتبارها عنوان أية دولة.
عملت حينها إسرائيل على تقويض قوة الدولة، فكرّست هذا الانقسام العامودي اللبناني وازدواجية السلطة، لتمنع استعادة المؤسسات الدستورية الديموقراطية نشاطها وآلية عملها، وهو ما يصبّ في مصلحة الدولة العبرية في تعطيلها لبناء دولة حديثة ديموقراطية في المشرق العربي تقدّم نموذجاً أفضل من "ديموقراطية دولة المستوطنين".
لذلك، تجنَّب الحزب أية مغامرة مع إسرائيل حتى بعد اغتيالها عماد مغنية، خشية تأثيرها في امتيازاته الجديدة في السلطة بعد عام 2006، وفي وظيفته الإقليمية التي أوكلتها إليه إيران لمساندة توسّعها المذهبي واستراتيجيتها الفائقة الطموح، بعد أن خرجت من هزيمتها الكبرى أمام العراق في نهاية الثمانينات والتي شبّهها الخميني ب "تجرُّع السم"، لكن ضيَّعها صدام حسين في غزوه الكويت وتداعيات هذا الغزو دولياً وإقليمياً وعلى العراق نفسه، فانتهت بتدميره على يد الغازي الأميركي. انتهزت إيران وأذرعها في المعارضة العراقية، الفرصة لتقديم خدماتها الى أميركا، فكسبت موقع الشريك في استعمار العراق والسند في أفغانستان. وحوَّلت "حزب الله" إلى "بندقية على الكتف"، فكلّفته بوظائف واسعة في البلدان العربية، من البحرين إلى اليمن، بل إلى مصر!
وازدادت حاجة "حزب الله" إلى التهدئة مع إسرائيل بعد الثورة السورية، ليتفرّغ لمعركة الدفاع عن النظام التي لم تعد تعلو عليها مهمة أخرى، في سبيل أن تتحوَّل إيران، إذا نجحت في قهر الشعب السوري، من شريك لنظام الأسد إلى سيّد له ومستعمر للسوريين، متوافقاً بذلك مع إسرائيل في حرصها على بقاء نظام الأسد. فقد عملت إسرائيل كل ما يلزم لاستمرار الحرب في سورية، وتفويت الفرصة على السوريين للتحوّل الديموقراطي والخلاص من النظام، وفعلت كل ما يلزم مع الغرب لهذا الهدف، فتُرك السوريون وحدهم في مواجهة القوة الحربية الباطشة للنظام والميليشيات الشيعية.
ساهمت هذه العوامل في صنع ظاهرة "داعش" التي وجدت المساندة من النظام. وأصبحت الساحة السورية جاهزة لاستقدام المتطرفين الذين بدل أن ينضمّوا إلى "الجيش الحر" ليكونوا سنداً للسوريين في نضالهم من أجل الديموقراطية، عملوا - وهم في معظمهم أجانب - على مواجهة "الجيش الحر" والتوسّع على حسابه في المناطق المحررة، خصوصاً دير الزور والرقة.
أصبحت المعارضة الوطنية المدنية الديموقراطية بين نار السلطة ونار المتطرفين الأمميين، بينما وضع "حزب الله" نفسه تحت إمرة القيادة المشتركة للنظام وإيران. وابتكرت إيران والحزب في كل مرحلة لتدخلهما حججاً جديدة، فساندا قوات الأسد في البداية تحت حجة مساعدة مواطنين لبنانيين يعيشون في قرى سورية، وعندما توسّع نطاق تدخلهما عسكرياً اصطنعا حجة جديدة، وهي حماية المقدسات والدفاع عن "مزار السيدة زينب"، علماً بأن الدمشقيين رعوا هذا المزار بإجلال منذ أكثر من ألف عام كجزء من اعتقادهم وتقليدهم، حالهم في هذا الإجلال كحال أهل القاهرة في علاقتهم بمزاري "سيدنا الحسين" و "السيدة زينب"!
ثم انتقل الحزب الآن، وبعد انكشاف الوجود الإيراني في الأراضي السورية، إلى الادعاء بأن الغرض من هذا الوجود هو مواجهة العدو الصهيوني، بينما الأمر كلّه متعلّق بالحرب على السوريين للحفاظ على نظام الأسد، وإبقاء دمشق حاضرة الأمويين وقلب العروبة النابض في قبضة فارس واستطالاتها وميليشياتها. فإيران تغدق الوعود على مقاتلي الشيعة في سورية، وتمنحهم مرتبات عالية، وتَعِد عائلاتهم باحتلال منازل السوريين المهجّرين، ليصبحوا قاعدة دائمة لاحتلالها ونفوذها.
أمام تلك الوقائع، حافظ جمهور الثورة من القوى الديموقراطية المدنية على تعلّقه بقيم الثورة وأهدافها الكبرى في الحرية والديموقراطية التي تجسّدت في قوى سياسية وعسكرية دفعت أثماناً باهظة لنضالها، وأصبحت تجمع في أهدافها بين الديموقراطية والتحرر من الاستعمار الإيراني الطائفي، فشكّل هذا الجمهور تياراً ثالثاً بين النظام وتلك القوى، مستنداً إلى التوجهات الديموقراطية لأكثرية السوريين التي تشكّل ضمانة لمستقبل الثورة الديموقراطي.
فالشغل الشاغل لإيران وبالتبعية ل "حزب الله"، هو قتال السوريين تحت حجة مقاتلة التكفيريين والإرهابيين. والحال أنه ليس من إرهاب وتكفير يعلوان على من يُكفر رجال المرحلة النبوية والراشدية والأموية والعباسية، وهم العنوان الحضاري للعرب جميعاً. لذا لا حرب مع إسرائيل، فالكلام عن العداء لأميركا وإسرائيل تجارة مغشوشة تباع في سوق الممانعة ولم تعد تنطلي على أحد، لا في سوق بيروت ولا في أسواق صنعاء مع "الحوثيين"، فالأمر الرئيسي لإيران وحزبها الآن هو توجيه فوهة المدافع إلى درعا وجنوب دمشق والغوطة، ولا شيء غير ذلك. أما التهدئة مع الشركاء في لبنان فلا بأس بها، لأن لا وقت لدى الحزب لمناكفات هامشية على أرصفة بيروت وفنادقها ومقاعدها النيابية. ليكن تصالح وحوار وقبلات حارة، وليطمئن البيروتيون والطرابلسيون إلى أن لا هجوم ولا اعتداء من سلاح الحزب.
لا وقت للمزاح لديه ولدى إيران، فالمعركة المصيرية لهما - ربما يجب أن تكون كذلك لغيرهما - تتقرر الآن في دمشق حاضرة الأمويين. وعند النصر كل شيء يهون. عندها ستتقرّر أحجام الرجال والقوى والتحالفات والوزارات والانتخابات ورئاسة الجمهورية. الآن، لا صوت يعلو على صوت المعركة على دمشق ودرعا والشعب السوري.
اليوم تهدئة على جبهة إسرائيل، ربما إلى الأبد أو بانتظار "العقد الأميركي - الإيراني"، واليوم تهدئة ومصالحة في بيروت، إلى أن يحين الحين فيصبح الكلام غير الكلام والفعل غير الأفعال.
تدور الآن معركة كبرى من الصعب على السوريين نسيان ضحاياها ومراراتها. غير أن كل ما تصنعه إيران وحزبها سيذهب هباء، وتبقى الجروح والأخاديد العميقة ماثلة أمام السوريين الذين سيقومون من قلب الدمار والدماء لبناء بلدهم حجراً على حجر. لكنهم لن يعيشوا في الماضي سوى للعبرة للحاضر والمستقبل.