الرئيسة \  واحة اللقاء  \  بخصوص اليسار الممانع والثورة السورية

بخصوص اليسار الممانع والثورة السورية

23.06.2013
ماهر الجنيدي

المستقبل
الاحد 23/6/2013
يمكن اعتبار الثورة السورية، بحق، مفترق الطرق الرئيسي الثاني الذي يواجه اليسار العربي، بعد سقوط منظومة الاتحاد السوفياتي. ذلك أن الثورة السورية طرحت أسئلة كبرى على اليسار، عن النضال الطبقي والنضال الوطني والنضال الاجتماعي. بل وأعادت بقوة طرح أسئلة كثيرة من قبيل: هل ينبغي توحيد اليسار؟ ماهي المهمات الملقاة على عاتق اليسار اليوم؟ بل أعادت كذلك طرح السؤال القديم: ما هو اليسار؟ وما يستتبعه من أسئلة، منها ما هو ميداني ومنها ما هو نظري عقائدي، تتعلق بالمقاومة والممانعة، والصراع الطبقي والعدالة الاجتماعية، والنضال ضد الرأسماليات والإمبرياليات.
وقد أحاط بالثورة السورية العديدُ من التفاصيل المتشابكة التي تجعل "المسألة السورية" ملتبسة في نظر العديد من قوى اليسار، منها هيمنة ثالوث "محور الممانعة" على المشهد المقاوم، ومنها الموقف من القوى السياسية الدينية، التي سبق لليسار "الرسمي" أن وصّفها اجتماعياً باعتبارها رجعية، وطبقياً باعتبارها إقطاعية، وسياسياً باعتبارها "الأداة المجرمة للصهيونية والإمبريالية". فيما استطاعت قوى يسارية أخرى، سأطلق عليها لقب "المارقة"، أن تقف إلى جانب الثورة السورية باعتبارها وجهاً لنضال اجتماعي ضد البرجوازية الطفيلية، وبصفتها نضالاً وطنياً ضد الإمبريالية.
ثمة اصطفاف يستحق الدراسة والبحث والتشريح والتحليل تشهده التيارات الرئيسية في الأحزاب والمنظمات الشيوعية الستالينية والماويّة والسوفياتية "الرسمية" والتروتسكية، وهو اصطفاف لا يعني أن كل الأفراد أو الجماعات، ضمن كل قوة، مازالت تتماهى مع تيارها الرئيسي. لكن يمكننا مبدئياً تصنيف اليسار، الذي ما زال يحافظ على عقائديته، في حالتين راهنتين: رسميّة ومارقة.
تعكس الحالة "الرسمية"، المتمثلة بمختلف السلالات البكداشية في سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، وضعية انسلاخ يساري كامل عن المهمات الاجتماعية، وتوصيف للذات اليسارية فيها باعتبارها سنداً لمحور الممانعة المفترض. سند لا يبخل عن اللزوم بتقديم مناشدة "الإصلاح" هنا، أو انتقاد "عدم الإصغاء للجماهير" هناك. فيما تبدو الحالة "المارقة"، على شجاعتها، مرتبكة، يكتنف خطابها شعور بالذنب، تحاول تخطي التفكير المعلّب بأدوات معلّبة، فنراها تنحو إلى ليّ عنق الأحداث والوقائع والبيانات، لتتوافق مع منظومة فكرية مسبقة، ترى في الإمبريالية، أيضاً، العدو الأول فضلاً عن البرجوازية؛ وترى في الثورة السورية خطاً نضالياً ضد البرجوازية والإمبريالية. بمعنى أنّ حالتي اليسار تتشابهان من حيث أسلوب تحديد هويتها من خلال الآخر، وتفترقان في اختيار هذا الآخر، "الرسمي" يختار الحلفاء، و"المارق" يختار العدو.
وكأن اليسار يضطر، وهو في الواقع غير مضطر، إلى أن يرمي جانباً الماركسية وغيرها من التراث الفكري الإنساني المتجدد كل يوم، كي يعتمد القوالب التي خلفتها المرحلة الشيوعية فيه.
طرح "الربيع العربي" (الذي قد يتجاوز كونه عربياً) منذ اليوم الأول شعاراته العفويّة: الحرية والكرامة. وعفوية الشعارات لا تعني أبداً سذاجتها بل تعني "عضويتها" وأصالتها. لقد استطاعت الأنظمة البائدة، والآيلة إلى السقوط، أن تعرقل المهمة الوطنية الأساسية التي استتبعها الاستقلال ووجود الدولة الوطنية، والمتمثّلة في "التقدم الاجتماعي"، بما يعنيه من تكريس دولة المواطنة، عبر تطوير البنى الاقتصادية والدستورية والإدارية، وبما يفضي إلى وعي المجتمع لذاته ولمكوناته ولهويته ثقافياً، وإلى وعي القوى المدنية لمهماتها اجتماعياً، وبالتالي العبور إلى العصر. ومن هنا فإن إسقاط هذه الأنظمة يعني أساساً وقبل كل شيء أن تستأنف بلدان الربيع العربي تاريخها، الذي تسلّطت فيه، على مدى عقود، طغمٌ مالية اقتصادية أمنية مافيوية، وأن تستعيد المجتمعات فيها قدرتها على تحديد هويتها والتعرف إلى ذاتها.

لم يستطع اليسار "الرسمي" أن يفهم أنّ شعار الحرية الذي طرحه "الربيع العربي"، والثورة السورية خصوصاً، هو شعار استكمال درب الحرية الذي بدأ مع الجلاء، وسرعان ما انقطع تماماً مع الوحدة المصرية السورية، وكرّس قطيعته في ظل حكم الرئيس السابق حافظ الأسد. كما لم يستطع أن يستوعب شعار "الكرامة" باعتباره شعار المواطنة المتساوية. بل ظل اليسار، في قسمه "الرسمي" خصوصاً، حبيس نظرة الريبة والرفض أحياناً، التي تنظرها الأحزاب الشيوعية إلى "الديمقراطية"، باعتبار أن رسالة اليسار هي "العدالة" وحسب.
ثمّة حيثيات عديدة، جعلت الطبعة السورية من الاستبداد المشرقي ترفض الإفراج عن البلاد والرحيل إلا عبر حرق البلد، وإيقاع كارثة حقيقية بالسوريين، الذين يواجهونه اليوم بكثير من "الانتحارية" عبر شعار "الموت ولا المذلة". ويليق باليسار أن يعرّف ذاته من خلال الانتماء إلى السوريين، ورغبتهم بحماية مجتمعهم من التدمير، وبناء دولة المواطنة المتساوية. يليق به أن يتعرّف إلى "المهمّات الوطنية" بصفتها الأوليّة الساعية إلى وجود "وطن لا مزرعة، ومواطنين لا رعايا".
بهذا المعنى فإن الثورة السورية، وانتفاضات الربيع العربي، وما قد تشهده فلسطين قريباً، هي حركات "وطنية" بكل ما في هذا المفهوم من أبعاد عضوية "Organic" أوليّة أصيلة، أبعاد ما زالت بلادنا في بداءاتها. أما الحديث عن مؤامرات ومقاومات وممانعات فهي ضرب من الإيهام والقفز عن الواقع.
من نافل القول إن الشعارات حين تصبح كبيرة يسهل السطو عليها بالبروباغندا. وشعارات من قبيل دحر الصهيونية، وهزيمة الإمبريالية، وسحق الرجعية، يسهل على أي لصّ أن يسطو عليها ويصادرها لحسابه، إذا امتلك البروباغندا الدينية والإعلامية، فما بالكم بقوى مافيوية أو طائفية مسلّحة ما قبل دولتية؟