الرئيسة \  واحة اللقاء  \  براميل بشار الأسد وقنابل بنيامين نتنياهو

براميل بشار الأسد وقنابل بنيامين نتنياهو

14.07.2014
يوسف بزي



المستقبل
الاحد 13/72014
لا تريد إسرائيل دولة فلسطينية قابلة للحياة، لها أرض وحدود واضحة. ولا تريد إسرائيل أيضاً أن تكون دولة لجميع سكانها. في الحالتين، لا هي قادرة على تحرير الفلسطينيين منها ولا هي قادرة على استيعابهم. بهذا المعنى، يقوم مأزقها على "وجود" الفلسطينيين. مجرد وجودهم ينقض شرط "الدولة اليهودية".
وإذا كانت نكبة الفلسطينيين، ومأساتهم المديدة، كان سببها وجود اليهود وهجرتهم إلى بلادهم، فإن "نكبة" إسرائيل حالياً هي وجود الفلسطينيين، لا كبشر وسكان غير قابلين للإقتلاع، بل أيضاً كهوية وطنية وحقيقة قومية، شعباً وأرضاً.
حدث الإنقلاب التاريخي، عندما أقرّ الفلسطينيون بحقيقة وجود دولة إسرائيل، كواقع لا يمكن تجاوزه، وانتقلوا من فكرة فلسطين التاريخية إلى فكرة الدولة الفلسطينية، مع هامش واسع وعملي يقول إن لم تتحقق نظرية "حل الدولتين"، فلا ضير مبدئياً من نظرية "دولة لجميع مواطنيها" يهوداً وعرباً. دولة المساواة والديموقراطية. في المقابل، ذهبت إسرائيل الصهيونية بتطور عكسي، بالتقهقر نحو مشروع عنصري وديني، استيطاني، لا حياة له ولا استمرارية إلا بالإحتلال والقوة العسكرية والقهر اليومي.
لم يعد الصراع بين "حقّين"، كما كان رائجاً في العقود السابقة، حق الفلسطيني بأرضه وحق اليهودي بدولته. انتهت أسطورة "رمي اليهود في البحر" كما انتهت أسطورة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". لكن إذا كان وعي الفلسطيني أدرك ذلك، بل وتعايش معه، إلا أن الوعي الإسرائيلي ما زال موقوفاً في خياله التوراتي. ولذلك، لم تستطع إسرائيل أن تكون دولة طبيعية، وظلت كآخر مشروع استعماري استيطاني في العالم. المشروع الصهيوني بات آخر أثر كارثي من مخلفات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. حتى أفريقيا الجنوبية، النموذج الفاقع للدولة الإستعمارية العنصرية، تخلصت من هذا الإرث وتفوقت على تاريخها وتصالحت مع حقائق العصر، بل مع حقيقتها المتعددة الأعراق.
بدل أن تبحث عن حل، اختارت اسرائيل المأزق بنفسها، اختارت أن توغل في خطيئتها، أن تستمر في إنكار الحقائق والواقع، اختارت أن تكبل نفسها بكذبتها الأيديولوجية. هي اليوم أسيرة مشروع غير قابل للحياة رغم جبروته ورغم شراسته، وفي الوقت نفسه تأسر الفلسطينيين معها وتمنعهم من الحياة، تنكر حقهم في الوجود. كل المفاوضات التي جرت منذ العام 1991 وحتى اليوم، كانت بين طرف فلسطيني يبحث بيأس عن حل عادل، وطرف إسرائيلي يبحث بيأس عن "انتصار" نهائي. اللحظة الوحيدة التي عبر فيه الإسرائيليون عن رغبة بسلام "الشجعان"، سرعان ما انقضوا عليها هم بأنفسهم، وقتلوا فيها رئيس وزرائهم اسحاق رابين.
منذ تلك اللحظة، قرر الإسرائيليون الهروب إلى مستحيلهم، إلى إكمال هذيانهم: إنكار الدولة الواحدة التعددية، وإنكار "حل الدولتين" في آن واحد. لا شيء سوى المزيد من الإستيطان والإقتلاع والإحتلال، المزيد من العدوان والإيغال بالدم الفلسطيني... لقد قررت إسرائيل أن تعيش في صراع دائم، في حرب مستمرة، أن لا تهب نفسها السلام ولا تمنح الفلسطينيين الحق.
وإذا كان الفلسطينيون اليوم أسرى الإحتلال، فإن الإسرائيليين اليوم هم سجناء الصهيونية وأوهام الإستيطان. أي أن مأساة الفلسطينيين مضاعفة، فهم ومن أجل أن يتخلصوا من الإحتلال، عليهم أن يُخرجوا الإسرائيليين من سجنهم. هكذا بات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، هو نضال من أجل الحرية للجميع. الفلسطيني يناضل من أجل كرامته وحقه وحريته، ومن أجل خلاص الإسرائيلي أيضاً. لقد تحول السعي إلى السلام إلى سعي في سبيل الحرية.
هنا بالضبط، يكتسب النضال الفلسطيني بعداً جديداً، ورمزية إضافية، فهو يلاقي "الربيع العربي" ملاقاة حميمة، ويكشف في سيرورته عن تلك الصلة العضوية، ليس فقط بين مطلب الحرية الذي هتفت به الشعوب العربية المنتفضة ضد الطغيان، ومطلب الشعب الفلسطيني بحريته ضد الإحتلال، بل أيضاً بين واقع الإستبداد العربي وواقع التسلط الإسرائيلي. اكتشفت الشعوب العربية، ومعها الفلسطينيون، هذا الترابط البنيوي بين الإستبداد والإحتلال. العلاقة الحميمة بين البراميل المتفجرة التي تلقيها طائرات بشار الأسد على المدن عقاباً لسكانها المتمردين، والقنابل التي يقصف فيها بنيامين نتنياهو بيوت غزة عقاباً لسكانها على انتفاضتهم. هي علاقة بين الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير والفتى السوري حمزة الخطيب، بين مخيم اليرموك في دمشق ومخيم خان يونس في غزة. اكتشفت الشعوب أن استمرار الإستبداد كان قائماً على حجة إسرائيل، وأن استمرار الإحتلال كان متوفراً بسبب الديكتاتوريات.
الحرب الثالثة على غزة، هي غير سابقاتها، فلا إسرائيل أرادتها من أجل إملاءات تفاوضية جديدة، ولا "حماس" أرادتها من أجل سياسات "الممانعة" الإيرانية السورية. هي "انتفاضة" فلسطينية مسلحة ومن أجل فلسطين، وهي "حرب" إسرائيلية واضحة من أجل بقاء الإحتلال. الفلسطينيون (و"حماس" تحديداً) تحرروا من قيود الإستبداد العربي وإملاءات "الممانعة"، ولذا استطاعوا إنجاز المصالحة الوطنية، لتكون المقدمة الضرورية نحو عودتهم إلى مسار معركة الحرية، والإنتفاض على الإحتلال. ولهذا السبب هم وحدهم الآن، بلا سند، لكنهم وعلى نحو نادر أحرار هذه المرة، أسياد مصيرهم وقرارهم.
ستكون هذه الحرب غير سابقاتها، فلا إسرائيل قادرة بعد اليوم على تسويق شعارها "محاربة الإرهاب"، الذي ابتذله الإستبداد العربي، ولا الفلسطينيون قابلين بعد اليوم العيش بلا حرية. لذا، وبغض النظر عن التحولات التي ستشهدها هذه الحرب وعن مداها، فهي مثلها مثل كل مجريات حروب المشرق العربي المندلعة اليوم، إما الحرية أو الإستبداد، إما كيانات عنصرية دينية وطائفية، وإما دول ديموقراطية تعددية، إما الإحتلال والتهجير وإما السلام العادل والشامل. إما دويلات الخوف والأقليات والأكثريات والتمييز والإضهاد، وإما جمهوريات الرحابة والمواطنة والمساواة.
لقد باتت فلسطين، اليوم أكثر من أي وقت مضى، هي "القضية المركزية" للشعوب العربية، لأنها الآن هي قلب الربيع العربي، هي الباب الأوسع لحرية الجميع، للإسرائيليين والعرب والكرد، للمسلمين والمسيحيين واليهود جميعاً.