الرئيسة \  واحة اللقاء  \  بشار الأسد نظام لا شخص

بشار الأسد نظام لا شخص

22.09.2013
جهاد الزين


النهار
السبت 21/9/2013
كرّر هنري كيسينجر مراتٍ عدّة، وبينها مؤخّرا، أن إزاحة الرئيس بشار الأسد من رئاسة الجمهورية العربية السورية "لن يحلّ المشكلة في سوريا".
يمكن النظر إلى هذا الموقف من وزير الخارجية الأسبق، العجوز الذي لا يزال يعلّق ويحلّل وينصح ويصدر كتباً قيّمةً جداً آخرها قبل عامين (2011) كتابُه الممتعُ "عن الصين"، يمكن النظر إليه من زاويتين ليستا متناقضتين ولكنهما مختلفتان:
الأولى هي أن تفاقم الصراع في سوريا يجعل إسقاط بشار الأسد غير قادرٍ على استيعاب النزاع لأن قوى عديدة داخلية وخارجية أصبحت في قلب هذا الصراع ولديها مطالب شديدة التناقض خصوصاً أن الوضع الميدانيّ بات مشتّتا وممزّقا ومدمّرا سياسيا وأمنيا وعمرانيا وبشريا وبالتالي فإن أي حل سلمي لسوريا سيستغرق - فيما لو سقط الأسد - عملياتٍ صراعيّةً صعبةً وشاقةً ومديدة.
الزاوية الثانية، التي أكتب هذا التعليق للتركيز عليها لأنها في الجدل حول سوريا لم تأخذ البحث الذي تستحق، هي أن بشار الأسد يمثّل حالة أكثر تعقيداً من حالات الرؤساء الذين سقطوا في موجات "الربيع العربي" وهم التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك والليبي معمّر القذافي واليمني علي عبدالله صالح.
هؤلاء كان يكفي إسقاطهم لخلق وضع سياسي جديد إذا لم نقل لقيام نظام سياسي جديد. هذا ما حصل في تونس وليبيا ومصر حتى في اليمن رغم تعقيدات الوضع اليمني. أما في سوريا وبما آل إليه تكوين النظام السياسي الحزبي السوري كنظام تحالف عصبيّتين علوية طائفية وبعثية متعددة الطوائف، فإن بشار الأسد لا يمثّل حالة فردية بل هو ممثّلٌ - بنيويّاً - لوضع متعدّد المستويات.
روى مرةً صحافيٌّ مصريٌّ مرموقٌ لصديقٍ له سمعتُ منه الرواية التي لم يكتبها الصحافي، وليس لديّ أيُّ سبب لعدم تصديقها، أنه في أحد لقاءاته مع الرئيس حافظ الأسد قال للرئيس الأسد أنه أعطى رأيه السياسي فيه أمام الرئيس أنور السادات. سأله الأسد: وماذا قلت له؟ أجاب أنه قال للسادات ان الرئيس حافظ الأسد ينتمي لثلاث أقليّات معا: حزبية وعسكرية وطائفية.
قال الصحافي - نقلاً عن الراوي - ان الأسد نظر إليه مباشرة وقال له: "العمى بقلبك... هيك قلتلّو؟"!
صحيح أن "العائلة" نافذةٌ جدا في النظام الذي أرساه حافظ الأسد ولكن الأهم في ما يتعلّق بمستقبل سوريا هو وضع الطائفة العلوية. فلقد كانت سيطرة آل الأسد على رأس السلطة في سوريا هي الشكل الذي اتخذه صعود الطائفة العلوية في بنية الدولة والمجتمع السوريّين. وهذه هي النقطة الجوهرية في الجزء الداخلي من المسألة السورية التي باتت تنقسم على أية طاولة مفاوضات إلى ثلاثة ملفات سياسية كبرى:
- داخلياً ما العمل حيال وضع الطائفة العلوية ونخبتها السياسية والعسكرية والاقتصادية في أية صيغة مستقبلية لسوريا؟
- إقليمياً ما مصير النفوذ الإيراني الذي يقابله الطموح السعودي لـ"استعادة" سوريا والطموح التركي المستجد لنفوذٍ في سوريا؟ (مصر غائبة).
- دولياً ما هو مصير النفوذ الروسي الذي قلب المعادلات في الصراع على سوريا: مصيره في الشرق الأوسط أو ما تبقى منه عربيا - وهو سوريا - خارج النفوذ الأميركي، بعد أن أحيا "الربيع العربي" تحالفاتٍ حيويةً بين نخب دينية وعلمانية عربية جديدة وبين الولايات المتحدة الأميركية على طول الشاطئ العربي الإفريقي من المغرب إلى مصر قبل أن توقِف روسيا هذا المدّ على الشاطئ الآسيوي السوري.
ما يعنينا مباشرة في هذه المقالة هو الملف الداخلي بين الملفات المتعددة المعقّدة التي بات يطرحها الصراع في وعلى سوريا مع كل خلفيّاتها من المصالح الاقتصادية النفطية والتجارية.
وإذا كان لا يمكن تصوّرُ أيِّ حلٍّ نهائيٍّ في الوضع السوري بدون بلورة نمط قيادة تعبيرات الأكثرية السُنّية الحاسمة عدديّا، مثلما حصل - في النتيجة - في العراق مع إتاحة الغزو الأميركي لتعبيرات الأكثرية الشيعية العراقية السيطرة على السلطة في بغداد، فبالمقابل تُشكّل حالة الطائفة العلوية حالة متحرّكة وقلقة ولاحقا حيوية في الوضع السوري منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى وبعد تثبيت سوريا ككيان موحّد في أواخر الثلاثينات وصولا إلى اليوم... فاليوم عدا الديموغرافيا الجبلية المتماسكة لا ساحلَ بحرياً لسوريا بدون العلويّين وهذا عنصر استراتيجي في العلاقات الداخلية السورية وفي النظرة الخارجية لهذه العلاقات.
إذن وضع العلويين كطائفة هو الموضوع الذي يجب أن يتقرّر على أساسه مصير الرئيس بشار الأسد وبالتالي مصير الظاهرة العائلية - الحزبية الحاكمة. ففي العمق، النظام السوري هو نظام نخبة أمنية سياسية علوية أوسع بكثير من عائلة الأسد وإن كانت تحت سيطرتها، النخبة السياسية هي جزء من شريحة حزبية من مختلف المناطق والطوائف السورية أظهرت أنها متماسكة أكثر بكثير مما كنا نتوقع ولا سيما مُثلّث شخصيات درعا - دمشق - ديرالزور المدعومة من قسم مهم من البورجوازية السُنّية الدمشقية والحلبية. ففي حلب رفضت هذه البورجوازية الانخراط في الصراع الذي فُرض عليها فرضاً مع فتح الحدود التركية أمام السلاح الثائر وما أتاحه لجماهيرَ سنّيةٍ عربيّةٍ وكرديّةٍ في ريفٍ محيط شبهِ معدومٍ وناقمٍ أن تُفلت من عقالها في مهاجمة المدينة التي دُمِّرتْ أجزاءٌ كبيرةٌ منها بين عنف النظام وعنف المهاجمين. وأيُّ رصد عام لحجم الانشقاقات الإدارية والحزبية عن النظام تُظهِر محدودية هذه الانشقاقات نسبيّاً وبالتالي تكشف درجة غير بسيطة من التماسك عبّرت عنه الشريحة الحزبية البعثية الحاكمة فعلا في بنيةٍ تسيطر على جزئها الأمني النواةُ العلوية.
من زاوية مصير وضع العلويين في الصيغة الجديدة التي لن تولد إلا من مخاض صراعي لسنوات طويلة يمكن تقديم الحالة المارونية في تجربة الحرب الأهلية اللبنانية. فهذه الحرب اللبنانية الشديدة التداخل الخارجي الإقليمي والدولي استغرقت سنوات ما بعد 1982 حتى 1989 لبلورة صيغة داخلية تعالج "مشكلة" الوضعية الخاصة للموارنة والمسيحيين جرى تكليف الرئيس حافظ الأسد بإدارتها مفوّضاً من الوضع العربي والدولي (السعودية وواشنطن) بعد أن استغرقت سنوات 1975-1982 الجهود لمعالجة الموضوع الفلسطيني داخل لبنان والأدق إنهاء نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية والذي انتهى بـ"عملية جراحية" قامت بها إسرائيل.
كان كل من زين العابدين بن علي وحسني مبارك شخصاً في نظام، أما بشار الأسد فهو نظام في شخص، عندما يُعالَج مصير النظام تصبح مشكلة الشخص نتيجة لا سبباً. وسيكون على الصيغة السورية الجديدة، وهو حديث مبكر جداً جداً، أن تعالج وضع العلويين وما يتصل به.