الرئيسة \  واحة اللقاء  \  بعد مقولة "شعب واحد في بلدين" قاتل واحد في بلدين

بعد مقولة "شعب واحد في بلدين" قاتل واحد في بلدين

20.01.2014
عمر قدور


المستقبل
الاحد 19/1/2014
لم تبتعد طويلاً في الذاكرة مقولة "شعب واحد في بلدين" التي دأب النظام السوري على تكرارها بهدف تبرير سيطرته على لبنان؛ المحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس الحريري ينبغي أن تذكّر اليوم بأن القاتل واحد في البلدين. المحكمة التي انطلقت بعد عودة الاغتيالات إلى لبنان، من خلال اغتيال وسام حسن ومن ثم محمد شطح، بالطريقة ذاتها التي اغتيل بها الرئيس الحريري وقادة ثورة الاستقلال الآخرون، هذه المحكمة كان مُناطاً بها بالأصل بالإضافة إلى إحقاق العدالة أن تمنع حدوث جرائم مشابهة مستقبلاً؛ الأمر الذي لم يحدث حتى الآن، لأن المتهمين في القضية لم يجرِ توقيفهم، ولأن حماتهم استطاعوا سلفاً تقديم نموذج عن الإفلات من العدالة، وحتى تكريس مبدأ تسلطهم خارج العدالة وفوقها.
بصرف النظر عن الموقف السياسي من مشروع الرئيس الحريري يصحّ القول بأن اغتياله كان جريمة تأسيسية للنظام في سوريا ولبنان، وهو بلا شك "نظام واحد في بلدين" حتى الآن، فالنظام السوري مع جريمة الاغتيال كان قد دشن مع حلفائه عصراً جديداً من الاستهتار بكافة التوازنات الإقليمية السابقة، وأراد مع حلفائه تكريس مبدأ الهيمنة الكاملة على البلدين. استمرار مسلسل الاغتيالات بعد الجريمة الأولى، وصولاً إلى غزو بيروت في السابع من أيار، كان للتأكيد على الجريمة وعلى النهج، وعلى التصميم الذي لم يتزحزح لإسقاط الدولة اللبنانية أسوة بالدولة السورية. الذريعة لم تتغير، في المرة الأولى كان طريق فلسطين يمر من بيروت، وفيما بعد صار طريق فلسطين يمر من القصير وغيرها من المدن والبلدات السورية، والذين وزعوا البقلاوة يوم سقوط القصير ربما كانوا قد وزعوها يوم اغتيال الرئيس الحريري في مجالسهم الخاصة البعيدة عن الإعلام.
حتى عام 2005 كان النظام السوري بحلته الجديدة يحاول الإيحاء بأنه تغير وأصبح أكثر مرونة وحداثة عما قبل، مع أنه لم يقصّر في قمع معارضيه في الداخل أثناء ما عُرف حينها بربيع دمشق، مع اغتيال الرئيس الحريري كشف النظام عن بنيته الحقيقية التي لم تتغير إطلاقاً، بل التي أصبحت أكثر فظاظة وفجاجة، البنية التي ترى في التشبيح وسيلة وحيدة للممارسة السلطة. لم يكن حينها مصطلح التشبيح مفهوماً خارج الحدود، على الرغم من أن اللبنانيين خبِروا أساليبه في عنجر وأينما وطأت أقدام رموز الوصاية، ذلك قبل أن تختبره بيروت في السابع من أيار. اغتيال الرئيس الحريري لم يكن ورطة لقاتليه كما ذهب العديد من التحليلات آنذاك، فما أن استرد القاتل أنفاسه حتى عاد إلى ممارسة مهنته كأي قاتل تسلسلي لا يستطيع التبديل في أساليبه، بل لا يودّ أن تتوه أعين الضحايا عن بصمته. مع اغتيال سمير القصير وجبران التويني وغيرهم كان التشبيح قد أصبح علنياً، وكانت المحكمة الدولية قد أصبحت فعلاً عاجزة عن منع القتل؛ القاتل أراد أن يكون مكشوفاً إلى أقصى حد، وأراد أيضاً القول بأن الاعتبارات المعنوية والأخلاقية لا وزن لها لديه.
الإفلات من العقاب جعل الجريمة المروعة ممكنة في سوريا الآن، فالقتلة أنفسهم الذين استباحوا الدم السوري واللبناني طوال أربعة عقود يستبيحونه الآن، ولم يكن وارداً استمرار مسلسل القتل لو وضِع له حدّ منذ البداية. أسماء بعينها يعرفها اللبنانيون والسوريون؛ ضباط مخابرات ارتكبوا الجرائم ذاتها في لبنان وفي سوريا؛ القيادات اللبنانية التي أوعزت بمهاجمة بيروت والجبل هي ذاتها التي أوعزت بمهاجمة السوريين في أراضيهم. المتهمون الأربعة في قضية اغتيال الرئيس الحريري هم أبناء المدرسة ذاتها التي تُظهر فنون التشبيح في سوريا اليوم، رفاقٌ لهم أو زملاء يستأنفون مهمتهم "المقدسة" في الاعتداء على أصوات الحرية والاستقلال، ينفذّون ما يؤمرون به من مهام "جهادية" وإن اختلفت الأساليب بين موقع وآخر أو حالة وأخرى.
وأن يكون القاتل مفضوحاً فهذا ليس لغبائه، وإنما لأنه يريد ذلك حقاً، أما أقصى ما يسعى إليه فهو أن يجعل هوايته مشروعة ومعترفاً بها، وأن يكون شريكاً للضحية ليزيل الفوارق بينه وبينها. ليس خوفاً ورضوخاً لمقتضيات السياسة أن يبادر أولياء المتهمين إلى مشاركة أولياء الضحايا في حكومة واحدة، بل هي رسالة خبيثة يُراد لها أن تُوجّه على أبواب المحكمة الدولية، يُراد القول بها ها أننا نحن وضحايانا شركاء في السياسة فما قيمة العدالة؟ هي تقريباً الرسالة التي سيوجهها مؤتمر جنيف2 عندما يجتمع القتلة والضحايا على طاولة واحدة، فيبدو الطرفان على نفس الأهلية الأخلاقية.
مقولة "الجيش والشعب والمقاومة" لم تتمخض سوى عن استقواء طرف باسم المقاومة، هو الطرف نفسه الذي يستقوي بها على تطلعات السوريين؛ إعلان بعبدا لقي مصيراً أسوأ لأن التزام "رفاق السلاح" أعلى من أي التزام آخر. هكذا سيكون مصير أي تفاهم لا يسمح بهيمنة النظام الإقليمي الحالي، وما لم يقف أولياء الضحايا وقفة حقيقية ضده. القفز فوق هذه البديهية لا يحمي وطناً، ولا ينجز وطناً لا في سوريا ولا في لبنان. يودّع حازم صاغية السنة الماضية بأن يكتب على صفحته في الفايسبوك: (دعنا من النفاق والتكاذب: أنا شخصياً لا تجمعني أية مواطنة بمن يضع السلاح في رأسي! حريتي قبل الوطنية). في الواقع كان السلاح طوال الوقت موضوعاً في رؤوس السوريين واللبنانيين، وكانت اليد التي تحمله تهدد دائماً بقطع أيدي الآخرين إن امتدت إليه، كان دائماً ممنوعاً على الضحية أن تجرد القاتل حتى من أداة جريمته، لأن ذلك وحده، ووحده فقط، قد يودي به إلى العدالة. في العام المنصرم لم تعد اليد الواحدة التي تمسك السلاح خافية، فهي تضغط على الزناد في سوريا وتلوّح به في لبنان، أو تستخدمه إذا اقتضت الضرورة، ولم يكن مطلوباً من الآخرين أن يكونوا شركاء حتى، بل المطلوب منهم الإقرار بهزيمتهم وتبعيتهم للولاية التي يتبع لها القاتل.
النظام السوري كان قد أكمل تبعيته لنظام ولاية الفقيه منذ عام 2005 على أقل تقدير، بل وصل الأمر يوماً بوزير خارجيته أن يعبر عن سعادته بـ"نجاحنا" في الوصول إلى عتبة مرتفعة من تخصيب اليورانيوم، وكان يقصد بـ"نجاحنا" الإيرانيين. مؤخراً صرح وزير الخارجية نفسه بأن صمود نظامه هو الذي أدى إلى "انتصار إيران" في مفاوضاتها مع الغرب، لذا لم يكن مستغرباً أن يتجاوز وزير الخارجية الإيرانية الأصول مؤخراً وهو يهدد السوريين المعارضين لمشاركة بلاده في مؤتمر جنيف2 بأنهم سيندمون، وأن يطلق تهديده من بيروت تحديداً، بل هو على الأرجح لا يرى في تهديده هذا للسوريين تجاوزاً بالقياس إلى المقاتلين اللبنانيين الذين يعبرون إلى سوريا بإيعاز من قيادته.
قد تكون المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس الحريري مناسبة جيدة لمحاكمة القتلة على الصعيدين المعنوي والأخلاقي إذا استُخدمت لمحاكمتهم على الصعيد السياسي أيضاً؛ ذلك يقتضي أن يُشار إلى القاتل صراحة وبعيداً عن "النفاق والتكاذب". الذين يلقون بالبراميل المتفجرة على المدن السورية، والذين يضعون عُصابات "لبيك يا زينب"، هم أنفسهم الذين يعدّون المتفجرات في لبنان. هم لم يعودوا بحاجة إلى "نفاقنا وتكاذبنا"، ولم يعد ذلك يحرجهم أو يخفف من اندفاعهم إلى القتل، محاولات تشذيبهم البائسة ترجع إلى زمن انقضى، إلى زمن "شعب واحد في بلدين"؛ هذه المقولة بدورها انتهت إلى وجود شعبين في بلد واحد، أو ثلاثة شعوب إذا أخذنا بالحسبان شعب النازحين السوريين في لبنان.
 [كُتبت هذه المقالة قبل بدء جلسات المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.