الرئيسة \  واحة اللقاء  \  بلا شرف ولا دين ولا ضمير

بلا شرف ولا دين ولا ضمير

05.02.2014
عبد الحليم قنديل


القدس العربي
الاثنين 3/2/2014
وصلت الأزمة السورية إلى الحائط المسدود، فلا مؤتمر جنيف سوف ينتهي إلى تسوية مرضية، ولا إلى هيئة حكم انتقالية مما يدعون، ولا الحرب العبثية على الأرض سوف تنتهي إلى نصر حاسم لطرف بعينه، ولا شيء يزداد في سوريا غير حجم المأساة، ومشاهد الدم ورعب الفجيعة، فقد سقط القتلى بمئات الألوف، وتشرد السوريون بالملايين، وصارت سوريا الجميلة أطلالا فوق أطلال، بينما بشار الأسد وزمرته في قصور دمشق الفيحاء، أو في ردهات مؤتمر جنيف الفندقية، يتحدثون بألف لسان، ويرددون أناشيدهم المعتادة عن الصمود والممانعة على جمجمة آخر مواطن سورى، ويستقوون بما ملكوا من سلاح، أو حصلوا عليه من دعم روسى أو إيراني أو من حزب الله، بينما لا تبدو المعارضة السياسية والمسلحة أفضل حالا من جماعة الأسد، فجماعات المعارضة السياسية تتناسل اسماؤها، ويخرجون علينا كل يوم بائتلاف أو مجلس جديد، وجماعات المعارضة المسلحة تتكاثر كالفطريات، وكل يوم ينبئونك بميلاد جبهة سلاح جديدة، وبأسماء تنتحل صفات ‘الإسلام’ أو ‘التحرير’ أو ‘الثورة’، ولا أحد فيهم يمثل أحدا، بل هو المزاد المفتوح للقتل وسفح الدم السوري، والمسالك المطروقة إلى أجهزة المخابرات وحقائب الأموال، والرقص على جثة حلم كان اسمه يوما، ثورة سوريا السلمية من أجل الحرية .
نعم، من حق السوريين أن يثوروا، وقد بدأوا ثورتهم بطريقة سلمية تماما، استلهموا ثورتهم مما جرى في عدد من أقطار أمتهم، ومن جرأة أطفال ‘درعا’، الذين بدأوا الثورة برفع شعار ‘الشعب يريد إسقاط النظام’، وكان جزاؤهم الوحشي نزع الأظافر، لكن الأظافر المنزوعة أنبتت أملا في قلب سوريا، وخرجت مظاهرات الحرية بعشرات الألوف، تتحدى قهر وطغيان جماعة بشار الأسد، وتطلب الحرية بالصدور العارية، وتواصلت السلمية المبشرة بالنصر لتسعة اشهر، وكادت تدق أبواب المدن الكبرى، بدأت الثورة السلمية من الريف ومن الأطراف، وكادت بصمودها المتألق أن تصل إلى دمشق وحلب، حيث يتركز قرابة نصف سكان سوريا، وحيث قوتها الحضرية القادرة على التغيير، ولم يجد بشار الأسد من خيار غير قلب الطاولة، وإشعالها حريقا طائفيا مستعرا، وجد الأسد ضالته في الهروب إلى الهاوية، وتفجير الحرب الأهلية، وكانت النتيجة مروعة، فقد انحسرت مشاهد التظاهر العفية، وحلت مشاهد القتل التي بدأتها جماعة الحكم الديكتاتوري الطائفي الناهب، واستجابت لها شرائح من الثوار الحقيقيين، ثم سرعان ما تعقدت الصورة، ودخلت على الخط جماعات لا علاقة لها بقضية الثورة من أصله، وعلى طريقة جماعات ‘القاعدة’ وأخواتها، وهى جماعات قتل احترافي تماما كجماعة النظام السوري، وعقيدتها القتل من أجل القتل، والتدمير من أجل التدمير، ولم تعد تردنا من سوريا المكلومة غير صور القتل والخراب والتشريد، وكلا الطرفين يقول لك انه حرر قرية كذا أو مدينة كذا، وتنظر إلى ‘البقعة المحررة’ في المشاهد المنقولة، فلا تجد بشرا ولا شبه بشر، فقط هو الحجر المتهدم فوق الحجر المطمور، وعلى حواف الصور تلال وأشجار تدمع أوراقها الذابلة، ويضيع صوت بكائها مع صفير الريح، أو تضيع ملامحها من وراء طبقات الثلج في فصول البرد، وكأن الحرب تنتهي، والنصر يتحقق، ويصير ناجزا كاملا، بتحرير القرى والمدن من سكانها، فلا تكاد تجد غير الأشباح، إما من جنود وضباط الجيش الرسمي، أو من المجاهدين الأشاوس ذوي اللحى الكثيفة والأجساد المكتنزة، وكأن الهدف هو تحرير سوريا من أهلها، وقذفهم إلى حيث ألقت.. إما في داخل سوريا، إلى مدن وقرى لم تصلها بعد لعنة الحرب، أو إلى مخيمات البؤس في بلدان الجوار التركي والأردني واللبناني، فلا شرف ولا دين ولا ضمير في القصة كلها، ولا حتى أخلاق للحرب، وهذه طبائع الحروب الأهلية المدفوعة بدواعي الانتقام وحدها، التي تدفن الثورات.
ثم تنتقل إلى دفن الناس، والحروب الأهلية في العادة تدور بين جهتين، لكنها  أي الحرب الأهلية  تدور في سوريا بين ألف جهة وجهة، ثم انها لا تقتصر على أهل سوريا، فالحدود السائبة سمحت بدخول مقاتلين من عشرات الجنسيات، يكونون مئات الجماعات، التي ترتدي غالبا ‘كوفية الإسلام’، ولا تحدثك عن الحرية والديمقراطية والتعددية، ولا تقيم لها وزنا من أصله، بل تعتبرها كفرا بواحا، وتحدثك زورا عن حكم الإسلام، وكأن الإسلام  استغفر الله واستعيذه  هو شريعة القتل، فجماعة بشار تعتنق شريعة القتل العلماني، والجماعات المناوئة الأقوى على الأرض، تعتنق هي الأخرى شريعة القتل، وتنسبها زورا إلى الإسلام، وعلى طريقة ‘جبهة النصرة’ أو جماعة ‘داعش’ التي تؤكد شريعتها الدموية بوضوح قطعي، وتقول على لسان المتحدثين باسمها ما يلي، تقول ‘اعلموا أن لنا جيوشا في العراق وجيشا في الشام من الأسود الجياع، شرابهم الدماء وأنيسهم الأشلاء’، هكذا ببساطة، وحاول  من فضلك  أن تتبين الفارق بين رجل ‘داعش’ ودراكولا مصاص الدماء، لا تحاول كثيرا، فما من فارق، ربما سوى أن داعش  واسمها بالكامل هو الدولة الإسلامية في العراق والشام  ترتدى كوفية الإسلام، وتنسب نفسها زورا إلى شريعة الإسلام، بينما هي تهين الإسلام وتحقره، وربما كانت ‘داعش’ أكثر صراحة في وحشيتها من جماعات أخرى تحاربها، وتتخذ لنفسها أسماء إسلامية مخادعة، وليست أقل في وحشيتها من وحشية بشار الأسد وزمرته، وأمثال هذه الجماعات هي التي تتقاسم السيطرة على الأرض السورية الآن مع جماعة بشار، ولا يكاد يوجد للائتلاف السوري المعارض نفوذ ينافس على الأرض، ولا لسابقه المسمى بالمجلس الوطني، ولا تكاد تلحظ أصواتا تثق بسعيها الجدي إلى تحرير سوريا من الديكتاتورية، وإحلال نظام وطني ديمقراطي، اللهم إلا في ما ندر وعصم ربك، وعلى طريقة ‘المنبر الديمقراطي’ لميشيل كيلو المشارك في الإئنلاف السوري، أو على طريقة معارضة الداخل السلمية ممثلة في ‘هيئة التنسيق الوطنية’ لقوى التغيير الديمقراطي، وهي امتداد متطور لجبهة وطنية ديمقراطية أسسها المناضل القومي الناصرى الراحل جمال الأناسي، وينهض بعبء قيادتها الآن خلفه المناضل حسن عبد العظيم، هؤلاء وحدهم  مع قلة من خارجهم  هم الذين رفضوا الوقوع في الفخ المنصوب لثورة سوريا الوطنية الديمقراطية، وتعرضوا للأذى والتنكيل والقتل والسجن، ورفضوا مبدأ الرد على العنف بالعنف، واقتنعوا بأن ‘عسكرة الثورة’ و’التدخل الأجنبي’ يميتان الثورة، ويخدمان جماعة بشار بالذات، التي أرادت جر الجميع إلى الحرب، وحتى تصبح الكلمة للسلاح لا لقوة الناس السلمية، وقد رفض قادة ‘هيئة التنسيق الوطنية’ كل إغراءات الإنزلاق إلى الخطايا، ورفضوا المشاركة في الحرب، ورفضوا الذهاب إلى مؤتمر جنيف العبثي، وظلوا مع شعبهم، يعانون ما يعاني، يقبضون على الجمر، ويعملون من أجل التغيير الثوري السلمي للنظام الديكتاتوري الاستبدادي، ودونما رهان على قوى أجنبية، تريد تفتيت سوريا وإنهاكها، وتحويلها إلى كانتونات طوائف، وإلى ملاعب قتل لا تنتهي إلا مع دفن آخر مواطن سوري .
هل من حل في سوريا ؟ لا حل  في ما نظن  بغير الاحتكام إلى إرادة الشعب السوري وحده، وتنحية قادة الإرهاب والقتل في النظام أو في المعارضة، ووقف الحرب المجنونة، وإعادة ملايين السوريين المهجرين إلى مدنهم وقراهم، وتنظيم انتخابات رئاسة وبرلمان تحت إشراف دولي، وليست المشكلة في سؤال بديهي عن الأطراف المستعدة لتنفيذ الحل المقترح، المشكلة: أن أحدا لا يريد حلا، وإلى أن يقضى الله أمرا كان مفعول.