الرئيسة \  تقارير  \  بوتين والنظام العالمي الناشئ‏

بوتين والنظام العالمي الناشئ‏

31.08.2022
باتريك لورنس


باتريك لورنس* – (كونسورتيوم نيوز) 22/8/2022
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
الغد الاردنية
الثلاثاء 30/8/2022
‏الخطاب الذي ألقاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 16 آب (أغسطس) ‏‏أمام شخصيات أجنبية رفيعة المستوى‏‏ في مؤتمر موسكو للأمن الدولي، وهو حدَث سنوي استضافته روسيا على مدى العقد الماضي، يعبر عن فكرة جديدة عن عالمنا، تشكل نظرة عالمية‏‏ حقيقية، وتترتب عليها تداعيات عظيمة.
قال بوتين: ‏‏”الوضع في العالم يتغير بطريقة دينامية، والخطوط العريضة لنظام عالمي متعدد الأقطاب تتبلور. ثمة عدد متزايد من البلدان والشعوب يختارون طريقًا إلى التنمية الحرة والسيادية، استنادًا إلى هوياتهم وتقاليدهم وقيمهم المتميزة”.‏
كانت حقيقة ظهور عالم متعدد الأقطاب واضحة للكثير من الناس منذ فترة طويلة -منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 على الأقل، عندما قام الألمان بتفكيك جدار برلين. ‏و‏كنت مقتنعًا منذ فترة طويلة بأنه في السنوات التي تلت انتصارات العام 1945، كسرت عشرات الدول الآسيوية والأفريقية في “عصر الاستقلال” الروابط الاستعمارية، وتطلعت معظم البشرية إلى بناء النظام العالمي نفسه الذي يصفه بوتين الآن وشرعت في بنائه. لكن الولايات المتحدة وحلفاءها قمعوا هذه التطلعات الرائعة مع بداية الحرب الباردة.
كان هذا من بين أهم سمات حقبة الحرب الباردة. عندما قسم الغرب مجتمع الأمم إلى كتل، كان تأثير ذلك هو إجبار غير الغربيين على الاختيار بين هذا الجانب أو ذاك. وفي الحقيقة، تم فرض هوية على الأمم: كان بوسع الصحفيين الكتابة عن “سنغافورة الموالية للغرب” أو “سوهارتو، الحليف المتحمس لأميركا”.‏
‏في جزء منها، كانت حركة عدم الانحياز، التي التأم شملها بالتدريج في الخمسينيات وأعلنت عن نفسها رسميًا في بلغراد أيام جوزيب بروس تيتو في العام 1961، حركة مقاومة ضد ثنائية الحرب الباردة. ولم ينطفئ الدافع الذي كان يحركها أبدًا -ما تزال حركة عدم الانحياز قائمة في واقع الأمر- لكن قسمة الشرق والغرب قامت بعملها الفظيع على مر السنين.‏
كان هذا الدافع بالتحديد هو الذي أعيد إحياؤه في تشرين الثاني (نوفمبر) 1989. في ذلك العام، فُتحت النافذة التي تطل على عالم متعدد الأقطاب مرة أخرى. وكانت هذه النافذة بالضبط هي التي شرع الأميركيون في محاولة إغلاقها مرة أخرى خلال سنوات التسعينيات مدفوعين بالروح الانتصارية، مع إصرارهم على وجوب أن يتبع الاتحاد الروسي الجديد، إلى جانب بقية عالم ما بعد الحرب الباردة، مثال الأميركيين النيوليبرالي.‏
كتب جوزيف برودسكي، الشاعر الذي كان يعيش في نيويورك في ذلك الوقت، إلى صديقه فاتسلاف هافيل، أن الأميركيين كانوا يلعبون مرة أخرى لعبة رعاة البقر والهنود في محاولتهم لفرض روتين “مثلنا تمامًا” على الآخرين. وقال برودسكي إنه كان على روسيا وبقية العالم أن يجدوا طريقهم إلى القيم العالمية التي أعلنتها أميركا، ولكن كان يجب أن يجدوا هذا الطريق بطريقتهم الخاصة، كل دولة بمفردها، وليس بتوجيه من رعاة البقر الذين يركبون الخيول العالية، ملوحين بالحبال ذات الأنشوطات.‏
الآن، ‏تقف روسيا على الحافة الأمامية لهذه الحركة التاريخية؛ هذه ‏‏الحركة طويلة الأمد. وأنا أصبح أكثر ثقة في أن روسيا، جنبًا إلى جنب مع زعماء آخرين غير غربيين -شي جين بينغ، نعم، ولكن ليس الرئيس الصيني وحده- سوف يدفعون العالم أخيرًا إلى نظام عالمي دائم تكون التعددية القطبية مبدأه الأساسي.‏
‏وأنا أقول هذا لأسباب عدة. إن تأكيد بوتين أن هذا النظام الجديد سيعتمد على “التنمية الحرة والسيادية القائمة على هوية الشعوب وتقاليدها وقيمها المتميزة” ليس سوى إعادة صياغة للقضية التي طرحها برودسكي ضد الموقف الأميركي بعد الحرب الباردة.‏
بالعودة أبعد إلى الوراء، ذكرتني ملاحظات بوتين بالإشارة المباشرة إلى المبادئ الخمسة التي اقترحها تشو إن لاي في منتصف الخمسينيات، والتي شكلت أساس المبادئ العشرة التي صاغتها حركة عدم الانحياز في بلغراد بعد نصف دزينة من السنين لاحقاً. هذه هي البئر التي أستمدُّ منها الثقة.‏
‏تابع بوتين في خطابه:‏ ‏”هذه العمليات الموضوعية تواجه معارضة من النخب العالمية الغربية، التي تثير الفوضى، وتؤجج الصراعات طويلة الأمد والجديدة، وتتبنى ما تسمى سياسة الاحتواء التي ترقى في الواقع إلى تخريب أي خيارات بديلة للتنمية السيادية. وبذلك، فإنها تبذل هذه النخب كل ما في وسعها للحفاظ على الهيمنة والقوة التي تنزلق من يديها. إنها تحاول إبقاء البلدان والشعوب في قبضة ما هو في الأساس نظام استعماري جديد (نيو-كولنيالي)”.‏
‏”النخب العالمية”، “نظام استعماري جديد”. كان جمهور بوتين في المؤتمر يضم العديد من ممثلي المستعمرات السابقة من ذوي الهويات الصريحة كأعضاء في “العالم الثالث” أو “الجنوب العالمي”، الذين أراد التواصل معهم مباشرة قدر استطاعته. وكانت هذه أقوى لغة استخدمها بوتين حول هذا الموضوع.
أن يكتب كاتب عمود مثلي عن النخب الغربية والنية التخريبية للولايات المتحدة وحلفائها عندما تصبح حقيقة النظام العالمي الجديد واضحة هو شيء؛ وأن يستخدم رئيس واحدة من أقوى دول العالم مثل هذه اللغة هو شيء آخر تماماً. وهو ما يؤكد اعتقادي بأن بوتين قد تجاوز منعطفاً في تفكيره.‏
‏سوف أحيل هذا الانعطاف إلى الوثيقة التي كان قد نشرها مع الرئيس الصيني، شي، في 4 شباط (فبراير)، عشية دورة الألعاب الأولمبية الأخيرة في بكين، أي قبل 20 يومًا من بدء روسيا تدخلها في أوكرانيا. كان “‏‏البيان المشترك بشأن دخول العلاقات الدولية عصرًا جديدًا والتنمية المستدامة العالمية”‏‏، إعلاناً رائعاً لا يُصدق.‏
توقيت مهم ‏
‏كان توقيت ذلك الإعلان مهماً. وكما كتبتُ في مناسبات عدة، فقد تخلت القيادة الصينية عن أي محاولة للعثور على الجدوى في علاقاتها مع الولايات المتحدة بعد لقائها الكارثي مع المسؤولين الأميركيين في أنكوراج قبل 11 شهرًا. ومِن كل ما حدث لاحقًا، من الواضح أن شي ووزراءه قرروا في ذلك الحين أن تسير الصين في طريقها الخاص وتتخلص من عناء محاولة تلطيف أمة تبقى قوية، ولكنها عالقة في الماضي.‏
‏بالطريقة التي أقرأ بها الأمور، أصدر بوتين الحكم نفسه تقريبًا بحلول 4 شباط (فبراير). لم تسفر كل الجهود التي بذلتها روسيا للتحدث بشكل منطقي مع الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي حول نظام أمني مستدام في أوروبا عن أكثر من عرقلة وهراء خطير.‏
يبدو أن بوتين وشي رسما خطا -أو قبِلا بالخط الذي رسمه الأميركيون: إذا كنتَ تصر على علاقات عدائية، فسوف تحصل عليها. ويبدو أن عبارة “إنهم يقفون في طريق العالم” قابلة للترجمة الآن ببساطة.
‏بالطريقة التي أرى بها الأمور، كان في أواخر الشتاء الماضي عندما صمم بوتين على الوقوف بحزم وصراحة من أجل إقامة النظام العالمي الجديد الذي يتحدث عنه الآن بوضوح ملحوظ وبلا وجل. ويشكل “‏‏البيان المشترك” استكشافاً أكثر شمولاً للأفكار التي تم تقاسمها في المؤتمر الأمني الذي عقد في 16 آب (أغسطس).‏
إذا كان ثمة شيء، فهو أن خطاب بوتين يبدو مثل ملخص ناجز للوثيقة السابقة. لقد أصبح التفكير متطوراً بشكل جيد الآن. ويبدو التزام بوتين واضحاً تمامًا -وهو سبب آخر يجعلني واثقًا من أن عالمًا متعدد الأقطاب سوف ينتصر على أحادية واشنطن. ويبدو أن الوقت الآن في صالح هذا التوجه.‏
‏ينطوي توقيت الخطاب الأخير، وغيره من الخطابات التي ألقاها بوتين منذ الشتاء الماضي، على مفارقة لأنه يتناول مواضيع ذات حجم تاريخي بينما نشاهد عملية خلافة في بريطانيا تدفع ليز تروس لتكون رئيسة الوزراء المقبلة للبلاد.‏
تروس هي من يصفها الأميركيون بالشخص غير اللطيف على الإطلاق. وسوف تكون بلا شك رئيسة الوزراء الأكثر غباء والأقل جدية في التاريخ البريطاني الحديث -ولست متأكدًا من أنني في حاجة إلى كلمة “الحديث”. ويشكل صعودها السياسي رمزاً للتدني الملحوظ في نوعية القيادة في جميع أنحاء الغرب. الرئيس الأميركي يظهر علامات خرف الشيخوخة. ولا يبدو أن المستشار الألماني قادر على تنحية القلق والشكوك ومخاوف الأنا والضغوط المهنية. وهكذا.‏
كما يبدو، أصبحت عصا “القيادة العالمية” التي يذكرها الرئيس جو بايدن في كل فرصة تتاح له، تنتقل إلى القادة غير الغربيين بينما يستسلم الغرب بفعل الامتصاص الذاتي المطلق.‏
سوف تكون المهام التي تنتظر في الأمام كثيرة جدًا بحيث لا يمكن عدها. وقد أصبحت البشرية اليوم في أمس الحاجة إلى النظام الجديد الذي يترك لها تواريخها وثقافاتها وتقاليدها ونماذجها الاقتصادية وسياستها وشؤونها الداخلية.‏ ‏لكنّ ثمة مسؤولية واحدة تحتاج إلى التأكيد.
‏تستمد روسيا قدراً يعتد به من النفوذ من مخزونها الضخم من الموارد، وعلى رأسها النفط والغاز الطبيعي. وقد توصلت مؤخرًا إلى اتفاقات مهمة في مجال الطاقة مع الصين والهند وإيران كخطوات نحو تنمية الدول المستقلة. لكنّ التنمية لا يمكن أن تمضي قدمًا من دون النظر في مسألة تغير المناخ والبيئة العالمية ومستقبل البشرية.‏
وليست القوى الغربية جادة في معالجة هذه المسائل. إنها مدفوعة تماماً برأس المال، والربح، وبما قد يعد فسادًا غير مسبوق يقاس بالمصالح المتضاربة لقياداتها السياسية. ويبدو هؤلاء الناس على استعداد للسماح لكوكب الأرض بالاحتراق بينما يحسبون ثرواتهم المتراكمة بلا توقف ويرشون أفنتيهم الخضراء بالماء كل الوقت بينما تجاهد أغلبيات في بلدانهم للحصول على مياه الشرب.‏
‏إذا كان للزعامة العالمية أن تنتقل إلى غير الغرب، فإن هذه المسؤولية ستأتي معها بالتأكيد. إن واجب بوتين تجاه الشعب الروسي، وواجب شي تجاه الشعب الصيني، والقيادة الإيرانية نحو الشعب الإيراني، وقادة كوبا تجاه الشعب الكوبي، والقادة في كل دول العالم تجاه شعوبهم، هو مساعدة هذه الشعوب على تحقيق حياة كريمة ودرجة أو أخرى من الازدهار.‏
لكن غير الغربيين سيتحملون المسؤولية تجاه بقية سكان الأرض أيضًا. ويشمل هذا مواطني دول مثل الولايات المتحدة ذاتها، التي تسعى إلى إغراق المشروع. وقد أوضح القادة الغربيون و”نظامهم الدولي القائم على القواعد” تمامًا أنهم لن يفعلوا شيئَا بشأن تغير المناخ إلا في هوامش غير مهمة. ويتعين على بوتين وشي وغيرهما من القادة غير الغربيين أن يأخذوا زمام المبادرة في قيادة التفكير والأفكار والسياسات.‏
ولا أود أن أكون في مكانهم في الحقيقة. ولكن، كيف يمكننا أن نتطلع إلى نظام عالمي جديد إذا فشل الذين يقودونه في التصرف لصالح العالم؛ العالم بأسره؟‏
*باتريك لورانس Patrick Lawrence: مراسل صحفي أجنبي لسنوات عديدة، وخاصة لصحيفة ‏‏”إنترناشيونال هيرالد تريبيون”‏‏، هو كاتب عمود وكاتب مقالات ومؤلف ومحاضر. كتابه الأخير هو‏‏ “لم يعد هناك وقت: الأميركيون بعد القرن الأميركي‏‏”.‏‏
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Putin & the Emerging Order