الرئيسة \  واحة اللقاء  \  بوتين يرتب لإقامة طويلة في الشرق الأوسط

بوتين يرتب لإقامة طويلة في الشرق الأوسط

16.09.2017
جميل مطر


الخليج
الخميس 14/9/2017
أثبت فلاديمير بوتين، ويستمر يثبت، أنه لاعب سياسة دولية من طراز نادر. راقبت عن كثب أداءه في السياسة الداخلية الروسية خلال سنوات صعوده، كان الأداء متقناً إلى حد بعيد، وكان الصعود إلى القمة سريعاً ومثيراً. وها هو بعد أقل من عشرين سنة يستطيع أن يفخر بأنه أعاد إلى روسيا الاستقرار، ووضع لها دستوراً جديداً، ونجح في أن يعيد إلى الكرملين الاحترام والهيبة بعد سنوات من سوء الإدارة وفوضى الحكم والتدخل الأمريكي السافر في جميع شؤون روسيا.
ومن مراقبة السياسة الداخلية في عهده انتقلت إلى متابعة السياسة الخارجية الروسية بقيادته، لأصل إلى ما انتهيت إليه خلال الأسابيع الأخيرة، وهو أن الرئيس بوتين أثبت ويستمر يثبت تمتعه بكفاءة قيادية عالية وفهم جيد لذهنية أقرانه من القادة السياسيين ومفردات شخصياتهم وقدراتهم السياسية وطموحاتهم الفردية. أثبت أيضاً أنه قادر على أن يُنصب نفسه واحداً من أهم القادة المعاصرين، الذين استطاعوا تحقيق إنجازات دون أن يلتزموا مبادئ اجتماعية معلنة أو يتقيدوا بمنظومة أخلاق وقيم ديمقراطية وإنسانية متعارف عليها في أوروبا خاصة والغرب عامة.
لم تكن بدعة، فكرة التدخل في مجتمعات ومراكز القيادة في الدول الأخرى للتأثير في عمليات صنع السياسة واتخاذ القرار؛ بل لعلها كانت على الدوام ومنذ الأزمنة القديمة هي أهم وظيفة تقوم بها أجهزة الاستخبارات تحت مسمياتها المختلفة وكذلك السفارات وغيرها من البعثات الدبلوماسية.
يصعب إنكار أن الرئيس بوتين يضمن الآن ولاء معظم، إن لم يكن كل، قادة حكومات دول الجوار. أقول ولاء واحترام ولا أقول تبعية بمعاني المرحلة السوفييتية للعلاقات مع هذه الدول. استخدم بوتين العنف المسلح في حالتين على الأقل؛ ليضمن ولاء دول بعينها مثل جورجيا وأوكرانيا أو التهديد باستخدامه مثل دول البلطيق. في تصوري، وتصور آخرين، أنه نجح في تجميد أزمة أوكرانيا لمصلحة روسيا. بمعنى آخر لا أعتقد أن حكومة سوف تأتي في أوكرانيا في المستقبل القريب وتحاول جدياً استئناف الحوار للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو تغازل حلف الأطلسي.
أظن أيضاً أن علاقات روسيا مع دول شرق أوروبا بدأت تستقر على مستوى جديد. الحب المتبادل بينها غير قائم ولا أحد عند الطرفين يسعى إليه. أقصى الأماني ألا تطالبها بروكسل بسياسات أو مواقف تجلب عليها غضب موسكو. بعضها، مثل المجر، يسعى لكسب رضاء الرئيس بوتين برفض، أو التلكؤ في تنفيذ الالتزامات والمبادئ الليبرالية والديمقراطية التي أعلنت تبنيها عندما اختارت الانضمام إلى الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
لم يخطئ الذي قال إن الرئيس بوتين مدين ببعض نجاحاته في ميدان السياسة الخارجية إلى ضعف الولايات المتحدة أكثر من اعتماده على القوة الذاتية لروسيا، الصلبة منها والناعمة. فقط أضيف أن فضلاً كبيراً يعود إلى صانع السياسة في الكرملين الذي عرف كيف يستثمر الضعف الأمريكي، ويختار أفضل المواقع التي تنسحب منها أمريكا لتحل فيها روسيا.
عندما أتحدث عن سياسة بوتين في الشرق الأوسط أتعمد استخدام سوريا مثالاً على أولويات المواقع الاستراتيجية في الشرق الأوسط، ونموذجاً للمواقع الأشد جذباً للتدخل. كانت سوريا ولا تزال الطاقة الجاذبة لاهتمام صانع السياسة في مصر كما في غيرها من دول الجوار والدول العظمى عبر كل العصور. رأت موسكو، كما رأينا ورأى العالم بأسره، كيف أن إدارة الرئيس أوباما لم تحسن التصرف عندما حانت أكثر من فرصة للتدخل لوقف تدهور الأمور في سوريا، هذا التدهور الذي نتج عن تدخلات غير مسؤولة من دول إقليمية وعربية. وقد رأت موسكو، كما رأينا في مصر؛ بل وفي واشنطن نفسها، أن التوسع في التدخل الروسي قد يكون أفضل المتاح لوقف انهيار الإقليم بأسره كما أنه قد يكون السبيل، المحفوف بأقل المخاطر وفي الوقت المناسب تماماً، لاستعادة مواقع استراتيجية وقواعد عسكرية وسياسية في قلب الشرق الأوسط.
في الوقت نفسه، وبالأحرى بعد أن اطمأنت موسكو إلى ثبات مكانتها الاستراتيجية في سوريا، وإلى فاعلية شبكات التعاون والتوازنات التي أقامتها فيها، راحت تطرق أبواب "طالبان" في أفغانستان. لاحظت أن العسكريين الأمريكيين قرروا تنفيذ خطط جديدة تعتمد نفس الفلسفة التي اعتمدتها خطط التسوية في سوريا، وأهمها الاستفادة من نفوذ قوى إقليمية كالهند مثلاً وربما إيران، وإضعاف نفوذ قوى أخرى مثيرة للاضطراب مثل المؤسسة العسكرية الباكستانية. بمعنى آخر اكتشفت موسكو وجود فرصة مثالية أخرى تؤمن أو تستعيد لها دوراً في أفغانستان؛ حيث تتجمع الطرق إلى موانئ الغاز والنفط .
كان لافتاً إصرار روسيا على التدخل وإن متأخرة في أزمة قطر. سكتت في انتظار ما تسفر عنه مساعي التوسط والتدخل من جانب مختلف القوى الدولية المؤثرة. لاحظت أن الأزمة كلفت أموالاً طائلة وأجبرتها على التنازل عن أرصدة سياسية وإقليمية غالية القيمة المعنوية. سمعت من مصدر قريب إلى الروس أن روسيا قررت التدخل بسرعة بدور ما لم تحدده بالدقة متوقعة أن الأزمة إن طالت قد تتحول إلى شكل آخر وربما بمضمون آخر يهدد كل ما أمكن التوصل إليه من تفاهمات أولية تتعلق بسوريا ولبنان والعراق وفلسطين ومستقبل الخليج ذاته.
واشنطن تعيد النظر في سياستها الخارجية على ضوء عوامل كثيرة ليس أقلها أهمية إعادة التوازن إلى معادلة القيم والبراجماتية وتصحيح الأخطاء التي ارتكبها كل من أوباما وترامب ودفعت أمريكا الثمن من مكانتها. فرنسا أيضاً تعيد النظر في أسس علاقتها بأوروبا ومستعمراتها السابقة، والصين تخرج بعد أسابيع إلى العالم فور انعقاد المؤتمر العام للحزب بسياسة خارجية طموحة مزودة بمشروعات تجارية واستثمارية وأهداف توسعية هائلة. أما روسيا فيستطيع الرئيس فلاديمير بوتين أن يفخر بأنه جعل لروسيا في مدة قصيرة سياسة خارجية جاهزة لتلعب مرة أخرى دور القوة العظمى.