الرئيسة \  واحة اللقاء  \  "بين بريتشينا وحلب"… رواية خارج السكة وحياة الجهاد في كوسوفو 

"بين بريتشينا وحلب"… رواية خارج السكة وحياة الجهاد في كوسوفو 

29.11.2020
محمد تركي الربيعو



القدس العربي 
السبت 28/11/2020  
منذ سنوات قليلة، كان المؤرخ الكوسوفي/السوري محمد. م الأرناؤوط (أو محمد موفاكو كما يقال بالألبانية) قد أنهى رحلته في التدريس الجامعي داخل عدد من الجامعات الأردنية، ولذلك ظن كثيرون أنه سيخلدُ للراحة بعد سنوات طويلة من التدريس والأبحاث وتأليف الكتب. بيد أنه، وخلافا لذلك، شكلت مرحلة التقاعد الأكاديمي فرصة له، لكي يزيد من نشاطه ومن إعادة تقميشه لعدد من المراحل والأحداث التاريخية. 
اعتاد الأرناؤوط، في السنوات الأولى من حياة التقاعد، على شد الرحال إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وفي طريق العودة غالبا ما يعرج على بريشتينا وإسطنبول وبعض المدن العربية، وهو محمل بمعارف ووثائق وأفكار جديدة عن التاريخ، وفي الوقت ذاته، شيء من الشجون حيال ما وصلت إليه الكتابات التاريخية في عالمنا العربي، مقارنة بالإصدارات والكتب الجديدة حول المنطقة في الجامعات الأمريكية، وهذا ما سيعبر عنه مؤخرا في مقال كتبه في إحدى الصحف العربية، حول مئوية معركة ميسلون، وما لحقها من نقاشات وأفكار، إذ يكشف لنا الارناؤط فيها عن قراءات أخرى حول سوريا العشرينيات وعن حفريات هنا وهناك، في الوقت الذي ما نزال نكرر فيه المقولات والأفكار ذاتها. 
لكن الأرناؤوط لن يقف عند هذه الرحلات، وإنما سيكمل ما بدأه منذ سنوات طويلة، على صعيد مدّ الجسور بين العالمين العربي والبلقاني؛ فعلى امتداد سنوات، كان الارناؤوط، الذي درس في دمشق، قد ألف عدداً من الكتب حول تاريخ البوسنة وألبانيا وكوسوفو، لنكتشف من خلالها تاريخا آخر للعلاقات بين العرب والألبان، وهو تاريخ بقي منسياً بالنسبة لنا. واستكمالاً لهذا لمشروعِ، أخذ على عاتقه في عام 2016 تأسيس معهد الدراسات الشرقية في بريشتينا، الذي ستكون من أولى مهامه، القيام بترجمة الأعمال الأدبية من الألبانية للعربية وبالعكس، ولعلنا نشير هنا إلى عمل الروائي الكوسوفي إبراهيم قدريو (خارج السكة/ترجمها عن الألبانية إبراهيم فضل الله) الذي نشره المعهد قبل عدة أيام بالتعاون مع مؤسسة ناشرون في الأردن. يعد قدريو أغزر كاتب في المجال الأدبي داخل العالم الألباني (قرابة 34 رواية عدا القصة والشعر). تخرج من كلية الآداب في بريشتينا عام 1968، ثم عمل مسؤولا عن القسم الثقافي، حوالي أربعين عاما، في أهم جريدتين كوسوفيتين "ريلينيا" و"زيري" حتى تقاعد سنة 2010. في روايته المترجمة، يحاول قدريو أن يقترب من عالم الجهاديين الكوسوفيين، فخلال سنوات 2012/2016، تناولت كثير من الصحف الكوسوفية والبلقانية قصص انتقال 314 مواطناً كوسوفيا (بينهم 44 امرأة) للقتال في سوريا والعراق، ما فجر نقاشات واسعة داخل المجتمع البلقاني والصحف الغربية، حول أسباب انتشار هذه الظاهرة في هذا المجتمع، الذي لطالما عرف بكونه أقرب للإسلام التقليدي الصوفي. 
تبدأ الرواية بقصة بائع كتب دينية، كان قد اعتاد على زيارة دمشق في سنوات ما قبل 2011، والسير في حي المزة وشوارع دمشق القديمة، مروراً بحي الأرناؤوط، الواقع في منطقة القدم في دمشق، وهو الحي الذي تأسس مع النصف الثاني من القرن العشرين. 
بعد تحرير كوسوفو في عام 1999، نشط عدد من الجمعيات الخيرية الإسلامية (الخليجية ) في هذا البلد بعد سنوات طويلة من الحكم الشيوعي. في هذه الأثناء كانت البلاد تفتقر لمقومات عديدة، إضافة إلى غياب الإمكانيات الكافية لتوفير الاحتياجات الهائلة للمناطق الريفية المدمرة على يد قوات الصرب، ما خلق أرضية مثالية لهذه الجمعيات للقيام بنشاطات لا تقتصر فقط على تقديم المساعدات، بل تمتد إلى نشر الرؤية السلفية أو الرؤية الإسلامية التركية، من خلال منظمات كولن؛ وقد تمكنت هذه الجمعيات من إعادة بناء 200 جامع تقريباً، كما وفرت عددا كبيراً من المنح لأئمة الجوامع وطلاب المدارس الشرعية، لإكمال دراساتهم في السعودية. ويبدو أنّ بائع الكتب الدينية، ضمن هذه التطور، قد بدأ يتأثر بالنشاط الديني لإحدى هذه الجمعيات، التي كان يديرها شخص من أصول عربية، كما تذكر الرواية. وسيظهر هذا الهوى السلفي الذي سيطبع حياة الرجل، أول شيء في العائلة من خلال إجبار ابنته على ارتداء الحجاب، الذي لا يعد ارتداؤه واسع الانتشار في المجتمع الكوسوفي، كما أن الحكومة الكوسوفية لطالما أبدت قلقها من انتشاره، كما ظهر في عام 2010، من خلال حظر ارتداء الحجاب في المدارس الابتدائية والثانوية الحكومية، انطلاقاً من كونه يتعارض مع الهوية الأوروبية الحديثة، التي يطمح إليها قادة هذا البلد. لم توافق الفتاة على طلب والدها، وفي أحد الأيام وبينما يسير بالقرب من إحدى الكافيهات، شاهد ابنته برفقة شاب، فاقتحم الكافيه ليتطور الأمر إلى عراك وإطلاق نار بينه وبين الشاب. ومن خلال مشهد العراك هذا، سيبدأ قديرو في رسم خيوط الشبكات غير الحكومية الدينية، ودورها في صناعة إسلام سلفي/جهادي في كوسوفو، في فترة ما بعد 1999؛ إذ ستقرر الشرطة بعد هذه العراك العنيف الانتقال إلى منزل الأب لتفتيشه، وهناك ستعثر على صندوق الباندورا الجهادي، الذي احتوى على أوراق وجوازات سفر مزورة، ورسائل شباب ذهبوا وقاتلوا في سوريا، وأيضا على أسلحة غير مرخصة. وهنا يبدو الروائي، في سرده للتحقيقات، ميالاً لفكرة أن تجنيد الشباب الكوسوفيين في القتال الدائر في الشرق الأوسط تولد بالأساس عن دور الوهابية، والمنظمات الإسلامية السلفية، وأن الإسلام في كوسوفو لم يكن بهذا الشكل قبل قدومهم. وعلى الرغم من أنه لا يبين لنا شكل الإسلام في هذا البلد قبل استقلالها، فإن ترجيحه للسردية السلفية الوهابية قد تبدو للقارئ العربي اليوم غير كافية ربما لتفسير ذلك، خاصة أن هذا القارئ كان قريباً في السنوات الأخيرة من مشاهد جهادية عديدة لم تكن جذورها ناجمة عن هوى وهابي، بقدر ما كانت تحتكم لعوامل محلية؛ مع ذلك، يمكن القول إن رؤية قدريو قد تبدو أكثر وجاهة، إذا ما وضعناها في سياق تاريخ الإسلام الألباني في القرن العشرين، وبالأخص في كوسوفو، والذي لم يشهد حالة من التسلف الديني لأسباب مختلفة، مقارنة بالعديد من المدن والضواحي العربية في دمشق والقاهرة وتونس، خلال السنوات والعقود الأخيرة. 
وكما ذكرنا فإن الرواية لا تعود بنا إلى ما قبل 1999 (لحظة تحرير كوسوفو) لفهم واقع الإسلام هناك خلال القرن العشرين، لكن هذه الزاوية كانت محل اهتمام عدد من الباحثين في تاريخ البلقان، من بينهم غيزيم كراسنكي (جامعة أدنبره)، الذي ألف في السنوات الأخيرة عدداً من الكتب حول دول ما بعد يوغسلافيا في كوسوفو ومقدونيا، كما أعد دراسة بعنوان "الفاكهة المحرمة.. الإسلام وسياسة الهوية في كوسوفو ومقدونيا"، التي بيّن فيها أنه خلال القرن العشرين، وفي فترة وجود كوسوفو ضمن يوغسلافيا الاتحادية الاشتراكية، حاول الألبان تجنب تسييس الدين، لتجنب خلق أي انقسامات في مشروعهم القومي الألباني، في المقابل، وباسم العلمنة، قامت يوغسلافيا بحظر الصوفية في البوسنة، وهذا ما جرى في كوسوفو أيضا، فحولت بعض التكايا إلى آثار ثقافية. وبعد الحرب العالمية الثانية، حاولت السلطات الصربية في جمهورية يوغسلافيا الاتحادية الاشتراكية استخدام الدين لتقويض القضية الوطنية الألبانية، كما عملت على تدابير لتشجيع المسلمين الألبان في كوسوفو على إعلان أنهم أتراك، وبالتالي حثهم لاحقا على الهجرة. وبعد تفكك جمهورية يوغسلافيا، وبقاء كوسوفو ضمن جمهورية يوغسلافيا الاتحادية، التي تألفت من الجبل الأسود وصربيا أيضاً، حاول الصرب وهم على وشك الحرب مع البوسنة، تنشيط فكرة الصرب كمدافعين عن "الحضارة الغربية" ضد التهديد الإسلامي، لكن هذه الخطوة لم تؤسس لتعصب إسلامي كوسوفي بالمقابل، والسبب كما يؤكد الباحث هو أن القضية الدينية بقيت تابعة للقضية القومية، سواء لدى المسلمين أو الكاثوليك الكوسوفيين. كما أنه خلال اندلاع المواجهات الصربية الألبانية، لم يفضل جيش تحرير كوسوفو خلال معاركه (1997 / 1999) تجنيد مقاتلين إسلاميين من خارج الحدود. ويبين كراسنكي أن خلق هذه المسافة والإصرار على التوجه القومي، بقي هو السائد لدى غالبية المنظمات والأحزاب الألبانية، التي بقيت تصر على توجهها الغربي. 
مع عام 1999 عرفت كوسوفو مرحلة جديدة، يدعوها كراسنكي بتأثيرات "الإسلام المعولم"، إذ أجبرت الظروف الجديدة والدمار الواسع للبلاد الحكومة على الترحيب بأي جهة تساعدها، وهذا ما ترك الإسلام الكوسوفي المحلي أحيانا تحت رحمة المنظمات غير الحكومية الدينية، وظهر ذلك مثلا في شكل المساجد المبنية، التي جاء شكلها المعماري مغايرا للهندسة المعمارية العثمانية لمساجد كوسوفو القديمة، كما افتتحت عدد من المدارس القرآنية التي تقدم تفسيراً سلفياً مختلفاً عن التفسير المحلي للإسلام ذي النزعة الصوفية، كما شهدت البلاد أحيانا حروبا كلامية للسيطرة على المساجد بين الممارسين التقليديين والسلفيين، وربما هذا ما أتاح، بحسب رواية إبراهيم قديرو، المناخ المناسب لتجنيد مئات الشباب الكوسوفيين، لدرجة بدت فيها كوسوفو البلد الأكثر تصديرا للجهاديين مقارنة بباقي بلدان البلقان المسلمة. 
وهنا وجب التنويه إلى نقطة، وهي أن غياب جذور رؤية سلفية في كوسوفو، باستثناء مرحلة ما بعد 1999، لا يعني أن المنظمات الحكومية العابرة للحدود، هي التي وقفت فحسب وراء هذا التجنيد، وإن بقيت بحسب بعض الباحثين الكوسوفيين والغربيين صاحبة التأثير الأوسع، ففي دراسة أخرى نشرها باحثان (آن سبيكهارد/ جامعة جوروج تاون، أرديان شاكوفيتش/المركز الدولي لدراسة التطرف) عن الجهاد في البلقان، يشير عدد من المقاتلين ممن استجوبهم الباحثان بعد عودتهم من سوريا، إلى أن الصراعات العرقية التي عرفتها البلقان في فترة التسعينيات، كانت ماثلة في ذهن عدد منهم، وهم يتابعون على الشاشات الجرائم في سوريا، وأن هذه الذاكرة لعبت دورا في انضمام قسم منهم للقتال. 
في آخر مشهد من الرواية، تصل ابنة بائع الكتب (أحد وكلاء تجنيد الجهاديين) إلى منزل حبيبها الذي تعرض لإطلاق نار، ليسافرا معا إلى فيينا لدراسة الفن (في إشارة ربما للتوجه الأوروبي لدى مسلمي كوسوفو) بينما تتعرف الشرطة على المكان الذي هرب إليه والدها وصاحبه العربي، في حين يظهر صاحب التاكسي الذي أوصل الفتاة لمنزل المحبوب مندهشا بعد حصوله على مكافأة مقدارها 100 يورو (في إشارة أيضاً للأوضاع الاقتصادية الصعبة في البلاد) وهنا لا نعرف ما الذي قصده المؤلف من هذه الخاتمة، هل كان يرغب بالقول إن الإسلام المحلي البلقاني، سيبقى إسلاماً أقرب للهوية الأوروبية، وإن القصة قد انتهت باعتقال هؤلاء الجهاديين؟ أم فضل ترك الأمر معلقاً؛ إذ لعل السائق ذاته ينقل في المستقبل ركابا آخرين إلى محطات أخرى وجهتها غير فيينا، حيث تبين ذات الدراسة الأخيرة أن قسما آخر من المقاتلين كان قد ذهب للعراق وسوريا بسبب الفشل المؤسساتي للدولة الكوسوفية الجديدة، وانتشار الفساد وعدم احترام القانون، وغياب اقتصاد كاف، مما ولد لديهم رغبة بالهروب والخلاص في يوتوبيا الجهاد والجنة والبطولة في الشرق، الذي يبدو أن موجة العنف فيه لن تتوقف في القريب العاجل.