الرئيسة \  واحة اللقاء  \  بين سارتر وديكارت: إشكالية الهوية في التعيّن السوري

بين سارتر وديكارت: إشكالية الهوية في التعيّن السوري

12.11.2018
حسام ميرو


سوريا تي في
الاحد 11/11/2018
تلاقي إشكالية الهوية، على الدوام، جدلاً واسعاً في لحظات التأزم التاريخي، وتصبح بحدّ ذاتها مشكلة، تحتاج إلى اجتراح حلول فكرية وسياسية.
والهويّة في نطاق الابستمولوجيا معضلة كبيرة، فالمعرفة تأبى الاعتراف بحقائق ثابتة، فإذا كانت الهويّة هي حقيقة الفرد أو الجماعة، فإن هذه الحقيقة تخضع على الدوام إلى عدد كبير من المتغيّرات، والتي تجري تحولات هائلة على الحقيقة/ الهويّة، بحيث لا تغدو الهويّة اليوم هي ذاتها الهوّية في الأمس.
الحاجة إلى الهويّة هي الحاجة إلى عدم انقسام الذات على ذاتها، وهي لذلك مسألة وجودية في الأساس، وفي تاريخ السجال الفلسفي حول الهويّة ثمة رؤى عديدة، لكن نقطة الخلاف الرئيسة تبقى في النقطة الأولى التي ينطلق منها تعريف الهويّة، فهل هي الموصوف أم الصفة، ولقد رفض الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر تعريف الهويّة الديكارتي: أنا أفكر إذاً أنا موجود، ويأتي رفض سارتر لهذا التعريف، لكونه يضع الهويّة في الموصوف، أي في الجسد/ الأنا.
الثابت في تاريخ السجال حول الهوّية أن تحديدها لا يعتمد فقط على وجودها
إن تاريخ التفكّر في الهوية هو بحدّ ذاته تاريخ رفض المثال الأفلاطوني، والذي يسلخ الموجود عن وجوده الأول، لمصلحة الفكرة، أي يسلخ الإنسان عن إنسانيته، لمصلحة الغائية المثالية، لكن من الثابت في تاريخ السجال حول الهوّية أن تحديدها لا يعتمد فقط على وجودها، بل أيضاَ على غيابها، ومن هنا، فقد كان للتعيّن السلبي أثر كبير في تحديد الهوّية، بل وفي الإسهام في عملية إنجاز نطاق واقعي للهوّية، خصوصاً فيما يتعلق بالجماعات (الجمعيات، الأحزاب، الكيانات الوطنية، وغيرها).
إن ما يواجه تعريف الهوّية ليس فقط صعوبة حصرها في حقل معين، كما يحدث حين يجري السجال حول مفهوم الهوّية الاجتماعية، بل أيضاً من التناقض بين القيم الثقافوية وبين الواقع، فثمة طغيان في مراحل تاريخية ما للقيم الثقافوية، فتعميم قيم ثقافية معينة قد يلغي، في سياق ما، أهمية عوامل أخرى، مثل العوامل الدينية، أو التاريخية، أو الاقتصادية، أو الوطنية.
لقد شهدت العقود الأخيرة صعوداً لقيم ثقافوية مرتبطة بحركة العولمة، وبناء نظام دولي جديد، ولقد أدّت الحركة من أجل تعميم السلع، وطرق استهلاكها، إلى بناء منظومة ثقافوية غير خاضعة للنقد الجدي، فتمّ التنظير، على نطاقٍ واسع، لهدم الحواجز بين الأوطان، وولادة هوّية جديدة، ترتبط بفكرة المواطنية العالمية، وتحوّل العالم إلى قرية صغيرة، بفضل ثورتي التقانة والاتصالات، لكن تكشف، مع الوقت، وبفعل التناقضات الكبيرة والمرعبة، داخل النظام العولمي، وداخل النظام الدولي السياسي، أن ما يحدث واقعي، وفي غير مكان من العالم، هو ارتفاع الجدران، وزيادة العوائق بين المجموعات البشرية، ووجود تناقض كبير بين الحاجة إلى المنتج العولمي، وبين القدرة على امتلاك المنتج، وبين تصعيد البروباغندا حول تعميم ثقافة وقيم حقوق الإنسان، وبين ازدياد الواقع المناقض لتلك الثقافة ولتلك القيم.
وفي حالتنا السورية، فإن مجريات الأحداث، خلال السنوات السابقة، أكدّت على وجود خلل كبير في واقع الهوّية، وفي وعي الهوّية، وفي تعيّنات وعي الهوّية لدى القوى والتكتلات والأحزاب السياسية، فقد ظهرت إلى السطح إشكالية الهوّية الثابتة، التاريخية، والدينية، والمذهبية، وحتى المناطقية، وتمظهرت في مشاريع القوى السياسية، وفي تلفيقات تلك القوى، التي أخذت شكلين متناقضين، الأول يعبّر عن تمسك بالهويّة الثابتة (عربية، كردية، إسلامية، وغير ذلك)، من دون النظر إلى العطالة التاريخية التي أصابت هذه البنى، وفي الشكل الثاني، ذهب البعض إلى تبني منظومات قيمية حداثية، من مثل المواطنة، وما يرتبط بها من حقوق، للقفز فوق مسألة الهوّية، خصوصاً فيما يتعلق بنقاش المسألة الكردية، أو الأقوام الأخرى، ووقفت عوامل صلبة، وراء هذا النوع من التلفيق، حيث لا يعكس الظاهر الباطن، فالعروبيون (في أغلبيتهم السياسية)، على سبيل المثال لا الحصر،  يجدون المسألة الكردية كنقيض للهوّية العربية، بدلالة انتماء معظم السكان إلى القومية العربية، ولا ينظرون إليها بوصفها مشكلة واقعية، يتطلّب حلّها اعترافاً بالتنوع القومي في سوريا، كما أن قوى سياسية كردية فاعلة، وجدت في الهوّية عاملاً سياسياً، يدعم معركتها، بعيداً عن الأفق السياسي المستقبلي الذي يمكن أن يتمخّض عنه ذلك الاستثمار المرحلي.
تشكل الوطن السوري، ابتداءً من انتهاء السلطنة العثمانية، ومعاهدة سايكس بيكو، وحتى اليوم، عرف صراعاً كبيراً على تحديد الهوّية
إن تشكل الوطن السوري، ابتداءً من انتهاء السلطنة العثمانية، ومعاهدة سايكس بيكو، وحتى اليوم، عرف صراعاً كبيراً على تحديد الهوّية، وقد أخذ هذا الصراع، في بعده السياسي، تعريف الهوّية إلى خارج النطاق الجغرافي والقيمي المشترك للسوريين، بفعل عوامل كثيرة، لكن، من أبرزها، حاجة القوى السياسية إلى شرعية الخارج، وعدم القدرة على تجاوز الجرح النرجسي لدى العروبيين والإسلاميين، فقد رفض الطرفان الاعتراف بالواقع المقر دولياً، بتحديد جغرافيا الوطن السوري.
إن الحاجة إلى تشكّل هوّية وطنية، لا يجب أن يفهم كنقيض لهويات أخرى، والتي أصبحت غير قادرة وحدها أن تشكّل هويّة، قادرة على تلبية حاجات الاجتماع السياسي، بل إن عدم تشكّل تلك الهوية، يجب أن ينظر إليه، كعامل أساس في أزمة الوطن السوري، فغياب الهوّية الوطنية، لدى معظم الفاعلين المحليين، أدى، ولا يزال، إلى سهولة التفريط السياسي بالوطن السوري.
بين سارتر وديكارت، بين الموصوف والصفة، يمكن أن نؤكد مع المفكر السوري الراحل إلياس مرقص بأن الصفة يجب ألا تأكل الموصوف، منحازين بذلك إلى سارتر، إلى الموصوف، أي إلى جسد الوطن السوري، ومن ثمّ يمكن لنا أن نعمل على تشكيل الصفات، بما ينسجم مع الاحتياجات الحقيقة للاجتماع السياسي المعاصر.
ربما لا خيارات أخرى، فغياب الجسد هو غياب للهوّية.