الرئيسة \  مشاركات  \  بين فقه الشعائر وفقه الحياة ـ 2-2 ـ

بين فقه الشعائر وفقه الحياة ـ 2-2 ـ

31.10.2013
د. محمد عياش الكبيسي




إن الظاهرة التي تستدعي الدراسة والتحليل تتلخص في إقبال المسلمين اليوم على شعائر الإسلام دون نظامه العام ومشروعه الشامل لفهم الحياة وإدارتها، وللظاهرة شواهد أكثر من أن تحصى ومنها:
1 - اهتمام المدارس والجامعات الإسلامية بتخريج الأئمة والخطباء وفقهاء الشعائر، والعجز عن إعداد الكوادر القادرة على قيادة المجتمع سياسياً واقتصادياً وتربوياً، مما أدى إلى تكريس ثقافة فصل الدين عن الحياة في مجتمعاتنا الإسلامية، رغم محاولات البعض وبجهودهم الشخصية للانفتاح على التخصصات الأخرى، بينما كان علماء الأمة يرسمون سياسات الدولة وقوانينها وخططها الإدارية ويحلون معضلاتها التفصيلية، ولم تكن الدولة في كل تاريخها بحاجة في كل هذا إلى الخبرات الخارجية.
2 - إخفاق الجماعات الإسلامية الشمولية وأحزابها السياسية في إقناع الأمة بمشروعها، بل وحتى في إقناع المتدينين وطلبة العلم الشرعي، ومن المفارقات الغريبة أن هذه الأحزاب نجحت إلى حد ما في المجتمعات التي تقل فيها مظاهر الالتزام الديني كماليزيا وتركيا، بينما أخفقت في باكستان وأفغانستان رغم شدة التمسك بالشعائر والمظاهر الدينية! وكأن المجتمعات المتدينة تدينا شعائريا تكون أقرب للدعوات العلمانية منها إلى الإسلامية.
3 - اقتصار الأوقاف الإسلامية اليوم في الغالب على الشعائر، فأموال الأغنياء المتدينين غالبا ما توقف على بناء المساجد، أما الأوقاف العلمية أو التربوية وحتى الإنسانية فهي ضعيفة ومحدودة جدا، بينما كانت أوقاف المسلمين أيام العباسيين مثلاً تدخل في أحشاء المجتمع كله، ووصلت إلى حد الوقف على رعاية الحيوانات المريضة والمعاقة ووقف الأواني المكسورة! أما الوقف على المدارس والمشافي والأيتام ونقاط استراحة المسافرين فأكثر من أن يحصى، وهذا لوحده يؤشر بوضوح على تراجع الوعي في فهم رسالة الإسلام لدى عامة المسلمين اليوم.
4 - قصور العمل الإسلامي في الغرب عن تحقيق مصالح الجاليات الإسلامية هناك، وقد يصل هذا القصور إلى حد الفشل إذا ما قورن بالأقليات الأخرى خاصة الأقليات اليهودية رغم الفارق الكبير بين نسبة المسلمين ونسبة اليهود هناك، فبينما ينجح اليهود في حشد أنفسهم للمشاركة الفعّالة في الحياة السياسية والاقتصادية لم ينجح المسلمون في الغالب إلا في حشد جماهيرهم لصلاة الجمعة والعيدين، وقد حدثني أحد الأصدقاء في السويد أن الحكومة السويدية تتعجب من عزوف المسلمين حتى عن مجرد الاطلاع على القوانين السويدية والتي قد تكون في خدمتهم مثل وجود ميزانية سنوية في الدولة لتحسين صورة الأقليات الدينية ونشر ثقافتها الخاصة والترويج لرؤيتها في التعايش وخدمة المجتمع!
5 - والأخطر من كل هذا هو تأثر السلوك الفردي بهذه الظاهرة إلى الدرجة التي مسّت كل مفاصل الحياة، وربما شكلت انتهاكاً لمبادئ الإسلام نفسه، ولننظر في هذه النماذج المتكررة في حياتنا اليومية:
أولا: تدني ثقافة الانسجام داخل المجتمع المسلم، فعلى مستوى الأسرة هناك مؤشرات خطيرة لازدياد معدلات الطلاق حيث تجاوزت في الكثير من البلدان خط الـ%30، وعلى مستوى العلاقة بين أبناء الحي الواحد فإنك قد تجد الجار لا يعرف اسم جاره ولا أي شيء عنه، وانتقلت هذه الظاهرة إلى المصلين في المسجد الواحد والذين يلتقون خمس مرات في اليوم ويقفون القدم بالقدم والكتف بالكتف بيد أن الكثير منهم لا يعرف اسم الواقف بجنبه! وكذلك قل في الحجيج وهم يطوفون بالبيت ويقفون على عرفات، وهذه المناسك يفترض أنها تصهر هؤلاء في بوتقة واحدة لكن الذي يحدث هو حالة من السلبية والتوجس وانغلاق النشاطات والفعاليات المختلفة في إطار الانتماء القطري أو الفئوي.
ثانيا: الجرأة على أكل حقوق الآخرين وأكل المال الحرام، فإنك ترى بعض الحريصين على صلاة الجماعة أو تكرار العمرة لا يتورع عن تأخير مستحقات سائقه أو خادمته في البيت لأيام طويلة وربما لشهور دون إذن منهما، وهذا المال قد اختلط بماله فهو يأكل ويطعم أهل بيته من هذا الخليط، وهناك حالة المماطلة في أداء الدَين حتى صار شائعا التواصي بتركه من الأصل لأنك قد تخسر مالك وتخسر المدين قريبا أو صديقا، وأما استخدام الكذب والغش والنكول في المعاملات المالية فهو أكثر من أن يحصى، وقد لا يكون هناك كبير فرق في هذا بين المجتمعات المتدينة عن غيرها.
ثالثا: ضعف الإتقان في العمل حتى لو كان مصدر الرزق، وحتى لو تعلقت به أرواح الناس كعمل الأطباء ومقاولي البناء.. إلخ وأذكر أحد الأطباء كان يقول: إني لا أجد وقتاً لقراءة وردي من القرآن إلا في المستشفى! وقد سمعت طبيباً يقول لمراجعيه في المركز الصحي: لماذا تأتون في كل شيء للأطباء؟ عندكم العسل والزنجبيل وحبة البركة وزيت الزيتون! ومؤسف حقاً أن نرى البنايات السكنية في أوروبا وهي مرقمة بتواريخ تعود إلى نحو مائة عام وما زالت صالحة للسكنى وكأنها جديدة، ثم نسمع أخبار انهيار البنايات الجديدة في بلادنا على رؤوس ساكنيها، وقد وصلت خطورة هذا التهاون في إتقان العمل إلى المعلمين والمربين وربما القضاة والمفتين!
رابعا: النظافة، وهي التي يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان) لكنك تجد المسلمين اليوم يتهاونون بهذا الشطر، وقد رأيت في أكثر من بلد أوروبي أنهم يأنفون من السكنى في بعض الأحياء أو البنايات التي يكثر فيها المسلمون بسبب المظاهر الكريهة والمزعجة، والأغرب من هذا ما تراه من تناقض لدى الحجاج والمعتمرين من تعظيم للحرم إلى حد البكاء ثم تجدهم يتركون مخلفات طعامهم هناك وفي الطرق المحيطة وأماكن النسك الأخرى خاصة منى وهي مظهر لا أود لغير المسلمين أن يشاهدوه، وقد زرت مرة غار حراء ذلك الغار الذي كان نقطة الالتقاء الأولى بين الأرض والسماء، لكني حزنت كثيرا لأكوام القمامة على حافتي الطريق. إن هذه النماذج والصور القاتمة وإن كانت لا تصلح للتعميم على كل المجتمعات الإسلامية، لكنها ظاهرة شائعة ومنتشرة وخطورتها تكمن في اقترانها بمظاهر التدين والسلوك التعبدي، ومن ثم كان لا بد من تفكيكها وإرجاعها إلى أسبابها ودوافعها، وهذا يتطلب جهداً معرفياً ضخماً تقوم به مؤسسات علمية رصينة وجادة، وإلا فإن الكثير من جهود الإصلاح والعمل الفردي أو الجماعي ستضيع في هذه الدوامة، والرجوع بعد كل شوط وتجربة إلى المربع الأول.
إن مسؤولية العلماء ليست في حل عبارات الأولين، بل في حل مشاكل الحياة التي نعيشها اليوم، هذا هو العلم النافع والذي يقربنا من الإرث النبوي، وقد كانت تلك وظيفة الأنبياء -عليهم السلام- أنظر ماذا يقول القرآن على لسان يوسف-عليه السلام-: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) يوسف 55 ثم يقول عنه: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) يوسف 76، والذي يتتبع موارد كلمة العلم في القرآن الكريم يجدها مقترنة بفقه الحياة وإدارة المجتمعات أكثر بكثير من اقترانها بفقه الشعائر، والعالم الذي لا يفقه الحياة لا يمكن أن يساهم في إدارتها وحل أزماتها، بل سيكون هو بنفسه جزءا من المشكلة، وهذه إحدى أهم معضلاتنا اليوم.