الرئيسة \  واحة اللقاء  \  بين فكّي الصراع الإيراني ـ التركي

بين فكّي الصراع الإيراني ـ التركي

29.04.2013
محمد السمّاك

المستقبل
الاثنين 29/4/2013
في كل مرة يرتفع فيها الصوت العربي مندداً بالتدخل الإيراني في الدول العربية، يرتفع الصوت الإيراني مهدداً اسرائيل بالضرب والتدمير..
وفي كل مرة ترتفع فيها التحذيرات العربية من مخاطر المشروع النووي الإيراني، توجه إيران أصابع الاتهام الى الترسانة النووية الاسرائيلية..
وفي كل مرة تطالب فيها دولة الامارات العربية بحقها باستعادة الجزر الثلاث التي احتلتها إيران في عهد الشاه (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى)، ترفع إيران شعار تحرير الأراضي الفلسطينية من الاحتلال الاسرائيلي..
وفي كل مرة يرتفع فيها صوت عربي شاجباً التورط الإيراني في سوريا دعماً للنظام، ترتفع الاتهامات الإيرانية الى تنظيم القاعدة بالتورط في سوريا، والى جماعة النصرة باستقدام "المجاهدين التكفيريين" لضرب الدولة السورية وتقويض أركانها..
وفي كل مرة توجه اتهامات عربية لإيران بترويج ثقافة مذهبية تدعو الى فك ارتباط العرب الشيعة بقوميتهم العربية والحاقهم بالقومية الفارسية الشيعية، تتسارع المبادرات الإيرانية للانفتاح على مصر وعلى الأزهر الشريف..
وفي كل مرة تعرب فيها الدول العربية عن شكوكها في حقيقة النوايا الأميركية من ايران بعد أن سلمتها العراق لقمة سائغة ومجاناً، ترفع إيران الشعارات التي تصف الولايات المتحدة بالشيطان الأكبر.. وبأنها الحليف القوي لاسرائيل وبالتالي العدو المشترك للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها..
وفي كل مرة تبدي الدول العربية قلقها من مبادرات إيرانية تجد فيها تهديداً للأمن القومي العربي وتعريضاً للسلم في الشرق الأوسط للخطر، توجه ايران الاتهامات الى اسرائيل بأنها تقف وراء الاضطرابات التي تمزق دول المنطقة، وبأنها تحاول أن تجعل من شرق البحر المتوسط بحيرة اسرائيلية.
وفي الوقت الذي تبدي فيه دول مجلس التعاون الخليجي القلق على حرية الملاحة (التجارية والنفطية) عبر مضيق هرمز (بين الخليج وبحر العرب) والذي تهدد إيران بإقفاله، ترتفع علامات الاستفهام حول دور إيران في دعم حركة الانفصال في جنوب اليمن وبتحريض الحوثيين على التمرد، من أجل تمكينها من السيطرة على باب المندب (بين البحر الأحمر وبحر العرب)!
ومع تراجع الدور المصري، وبالتالي الدور العربي، في افريقيا، يتوسع الحضور الإيراني. ورغم الضغوط السياسية والعقوبات الاقتصادية التي تتعرض لها إيران، فانها تجد دائماً ما تشجع به دولاً افريقية على التحالف معها وعلى الارتباط بسياستها في القارة السمراء. طبعاً لا تقدم إيران لهذه الدول لا السجاد ولا الفستق، ولكنها تقدم لها الأسلحة والذخيرة التي تحتاج اليها وبأسعار تشجيعية تحررها من الشروط السياسية التي تفرضها عليها عادة الدول الغربية (التي استعمرتها سابقاً).
وعشية الانسحاب الاميركي من أفغانستان، فان إيران تستعد لتلقي هدية أميركية جديدة مماثلة للهدية التي تلقتها في العراق بعد الانسحاب منه. وبغياب الدول العربية عن هذا المسرح الذي يجري إعداده منذ بعض الوقت، قام الرئيس الباكستاني بزيارة رسمية الى طهران باعتبار ان المصالح الإيرانية الباكستانية هي مصالح مشتركة في أفغانستان ما بعد الاجتياح الأميركي.
في عام 1501 تحولت إيران بقرار امبراطوري من المذهب السني الى المذهب الشيعي. ومنذ ذلك الوقت ربطت مذهبيتها الجديدة بقوميتها الفارسية. وفي ذلك الوقت أيضاً كانت تركيا ولم تزل- تتمسك بالمذهب السني الحنبلي. الا أن الدولتين، إيران الصفوية الشيعية وتركيا العثمانية السنية، كانتا في صراع شديد حول النفوذ في المنطقة وعليها. وعندما تكون الغلبة للإيرانيين كانوا يجتاحون العراق ويفتكون بأهله من السنة انتقاماً. وعندما تكون الغلبة للأتراك كانوا يجتاحون العراق ويفتكون بأهله من الشيعة انتقاماً. وهكذا تحول العراق بحكم موقعه الجغرافي بين فكي كماشة الدولتين المتصارعتين قومياً الى ساحة لتصفية الحسابات تحت المظلة المذهبية. في ذلك الوقت كذلك، لم يكن هناك كيان عربي سياسي مستقل. ولم يكن هناك بالتالي أمن قومي عربي مشترك. فالهوية القومية للدول العربية لم تتبلور إلا بعد انكفاء ايران وهيمنة بريطانيا وروسيا عليها؛ وبعد انهيار الامبراطورية العثمانية (الرجل المريض) وتمزقها وتهافت الدول الغربية على وراثة تركتها من الأمم والشعوب !!
تحالفت الكتلة العربية بقيادة الشريف حسين مع الغرب ضد العثمانيين، ولكن ذلك لم يقربها من ايران. ولم يشفع للشريف حسين انتماؤه الى أهل البيت لأنه صودف انه لم يكن على المذهب الشيعي. وليس كل المنتسبين الى أهل البيت من الشيعة حكماً. ثم ان محبة آل البيت ليست وقفاً على مذهب اسلامي دون آخر. فالولاء الاسلامي لآل البيت عامل جامع وموحد. غير ان احتكار هذا الولاء هو عامل مفرّق ومقسم.
نجح الشعور القومي العربي الاستقلالي عن الاستعمار الغربي في توحيد المجتمعات العربية مذهبياً (بين السنة والشيعة) وطائفياً (بين المسلمين والمسيحيين). ومرّ حين من الدهر وجد هذا النجاح ترجمة له في التحرر ليس فقط من الاستعمار، بل من الهيمنة الإيرانية من جهة ومن الهيمنة التركية من جهة ثانية. ساعد على ذلك قيام علاقات تعاون سياسي وأمني بين إيران الشاه السابق محمد رضا بهلوي واسرائيل رغم الجرائم التي ارتكبتها اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني خاصة ورغم الحروب التوسعية التي شنتها على الدول العربية الأخرى. كما ساعد على ذلك انكفاء تركيا واتباعها لسياسة النأي بالنفس عن الشرق الاوسط والتوجه نحو أوروبا املاً في الانضمام الى مسيرتها الاتحادية التي تكرست فيما بعد بقيام الاتحاد الأوروبي.
ولكن حدث أمران بعد ذلك ؛ الأمر الأول هو سقوط الشاه ونجاح الثورة الاسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني ؛ والأمر الثاني هو فشل تركيا في الانضمام الى الاتحاد الأوروبي على خلفية انها دولة ذات مجتمع اسلامي.
كان من أهداف الثورة الإيرانية تصدير ثورتها الى دول الجوار. ولقد لقي هذا الهدف تجاوباً عند بعض العرب الشيعة على خلفية ايران الشيعية. إلا انه لقي في الوقت ذاته رفضاً مطلقاً عند العرب السنة على خلفية ايران الفارسية.
لا شك في أن الأمر يبدو متناقضاً بين ما تريده إيران لنفسها وما تريده للآخرين. فإيران التي نجحت في أن تجعل من القومية ومن المذهبية وجهين مكملين لشخصيتها، تحاول في الوقت ذاته أن تفك الارتباط بين القومية والمذهبية في الدول الأخرى. وهذه الدول الأخرى ليست عربية حصراً. مثل البحرين مثلاً. فأذربيجان، دولة غالبية مواطنيها من الشيعة ولكن قوميتهم أذرية وليست فارسية. ويوجد جزء كبير منهم في شمال إيران. وطاجكستان، دولة قوميتها طاجكية ولكن مواطنيها على المذهب الشيعي في غالبيتهم. وتحاول إيران فك ارتباط الشيعية بالقومية الاذرية، وبالقومية الطاجكية، لاحتواء الدولتين تحت مظلتها القومية. من هنا ليست المشكلة التي تواجهها إيران مع جيرانها العرب (وغير العرب) مشكلة مذهبية في أساسها، ولكنها مشكلة قومية في الدرجة الأولى. وقد سبق أن أشعلت هذه المشكلة فتيل الحرب العراقية الإيرانية التي ذهب ضحيتها نحو المليون ضحية من الجانبين. وكان من نتائج عدم هزيمة صدام حسين في تلك الحرب الطاحنة شعوره بالغطرسة وبفائض من القوة استدرجه الى اجتياح الكويت. فكانت حرب الخليج الأولى التي أخرجته منها بالقوة العسكرية، ثم كانت حرب الخليج الثانية التي أخرجته من مخبئه تحت الأرض وحملته الى حبل المشنقة الذي لفه حول عنقه ألدّ أعدائه من العراقيين الشيعة.
ثم كان من نتائج إقفال باب الاتحاد الأوروبي في وجه تركيا، ارتدادها جنوباً نحو الشرق الأوسط من جديد. فاذا كانت "بروكسل" قالت "لا" لأنقرة، فان "مكة" يفترض أن تقول لها "نعم". ولكن لا الـ"لا" الأوروبية أدت الى خروج تركيا من حلف شمال الأطلسي، ولا الـ"نعم" العربية أدت الى أكثر من انفتاح الأسواق العربية أمام المنتجات التركية.
لم يعد هناك صراع إيراني تركي تقليدي ببعديه المذهبي والقومي. غير ان الصراع الجديد هو على من منهما يستطيع أن يملأ فراغ الترهل العربي بعد سقوط معاهدة الدفاع العربي المشترك. حاولت إيران أن تفعل ذلك عن طريق استعداء اسرائيل. وحاولت تركيا أن تفعل ذلك عن طريق التعاون مع اسرائيل. وظفت إيران استعداء اسرائيل لدى شعوب الدول العربية ونجحت في غزة ولبنان وسوريا. وفي هذا الاطار أيضاً تحاول تسويق برنامجها النووي. أما تركيا فبعد أن فشلت في توظيف استرضاء اسرائيل، وجدت في حادث الاعتداء على السفينة مرمرة فرصة مناسبة لقلب الطاولة تمهيداً لانتهاج ديبلوماسية جديدة. ولكن القيود السياسية الدولية المرتبطة بها، والمصالح الستراتيجية التي تشدها الى الولايات المتحدة والى حلف شمال الأطلسي، لم تمكنها من أن تذهب الى نهاية الطريق. فكانت العودة من خلال بوابة الاعتذار الاسرائيلي والتعهد بالتعويض على عائلات الضحايا الأتراك الذين قتلوا على متن السفينة مرمرة.
غير ان ما كان يجري على المسرح العراقي بين ايران الصفوية الشيعية - وتركيا العثمانية السنية، يجري الآن على المسرح السوري تحت مسميات أخرى. فإيران تقف الى جانب النظام سياسياً وعسكرياً ومالياً، وتركيا تقف ضده وتدعم معارضيه. تغير المسرح ولكن لم تتغير لا المسرحية ولم يتبدل أبطالها.