الرئيسة \  واحة اللقاء  \  بين (أسلمة سوريا) و(الثورة في إسلامها).. ملاحظات منهجية (10)

بين (أسلمة سوريا) و(الثورة في إسلامها).. ملاحظات منهجية (10)

05.01.2015
د. وائل مرزا



الشرق القطرية
الاحد 4-1-2015
ما هي صورة الإسلام الذي نستقرئ أن يولدَ على الأرض السورية من مخاض ثورتها؟ ثمة ملامح لهذا الإسلام ستفرض نفسها على الواقع، تدريجياً، وهي ملامحُ إسلامٍ مُختلف، لا يشبه، في قليلٍ أو كثير، ملامح الدين الذي يُقالُ للسوريين اليوم إن (أسلمة) سوريا ستتمُ وفقاً له.
إنه إسلامٌ لا تُحاصرُ فيه معاني الحرية. ولا يجري فيه تضييق معاني الاستقلالية والاختيار الشخصي، ولا يتوقف معه الإبداع في مجالات الفكر والثقافة والأدب والفن وغيرها من مناشط الحياة البشرية.
إسلامٌ لا يوصفُ فيه كل إبداع بأنه ابتداع، ولا يُتهمُ فيه كل تجديد بأنه طعنٌ للأصالة، ولا يُوصمُ معه أيُّ خروجٍ على المألوف بأنه منكرٌ وخطيئة، وكلُّ رأي آخر بأنه مخالفٌ للإجماع.
إسلامٌ لا تتوسعُ فيه دوائر المحرﱠمات والمُقدﱠسات بشكلٍ سرطاني حتى تُصبحَ هي الأصلَ في الدين، وتصيرَ محورَ تنزيله على حياة الناس وواقعهم، من خلال ممارسات الضبط والمنع والقهر والعسف والإجبار.
إسلامٌ يعرف أهلهُ دلالات الإشارات الكامنة وراء حرصه الشديد على تجنّب التقديس للأشخاص وللأماكن وللمظاهر.
إسلامٌ يتذكرُ أتباعهُ أن نبيهم يُوصف عندما يُذكرُ بال(كريم) وليس ب(المُقدﱠس)، ولا يتجاوزون حقيقة أن الكعبة (مُشرّفة) وليست (مقدّسة)، ولا يقفزون فوق المعاني الكامنة وراء عدم إمكانية استخدام تصريف (القدُّوس) إلا للإشارة إلى الخالق.
إسلامٌ يُدرك الملتزمون به أن كتاب عقيدتهم يُوصف، أيضاً، عندما يُذكر بال(كريم) وليس ب(المُقدّس). ولا يغفلون أن ذلك الكتاب لا يدعو الناس إلى (تقديسه)، وإنما يدعو بدلاً من ذلك إلى النظر والتفكُّر والتدبر والسَّعي والعمل والوسطية والرحمة.
إسلامٌ يقوم على الإيمان الفطري الطبيعي بالحلال البيّن والحرام البيّن، بعيداً عن التشدد والعنت والقسوة والغلاظة التي تريد أن تفرض نفسها على تأويله الأصيل، وعلى الناس.
إسلامٌ يرفض تقزيم العقل وتقييده ومنعه من التحليق بقوةٍ وعزيمة في آيات الأنفس والآفاق بدعوى إجلال الله. ويرفض ممارسات الكبت والتحريم وملاحقة البشر وضمائرهم، ويرفض العودة إلى شرعة الإصر والأغلال بعد أن حرّر اللهُ الناسَ منها، ومن الرهبانية المبتدعة والمرفوضة في أي شكلٍ من أشكالها.
إسلامٌ يرفض كل المبالغات التي تؤدي إلى الشلل العقلي والنفسي والعملي الذي يحاصر كثيراً من الناطقين باسمه اليوم، ويؤدي إلى افتقاد القدرة على العمل والحركة الفعلية بغرض تحرير الأرض والإنسان من كل القيود.
إسلامٌ لا يكون فيه الشرعي أو رجل الدين (البطل) العالم بالدين والسياسة والاقتصاد والعسكرة والقانون الدولي وعلوم الاجتماع، ويتعامل مع كل مسألةٍ في هذه المجالات بناءً على مبلغ علمه من الرصيد الشرعي (النقلي البحت في أغلب الحالات)، ومبلغ علمه عن الدنيا الذي يُحصلهُ من مقتطفاتٍ من الأخبار والنقولات.
إسلامٌ لا ينحصرُ فَهمهُ وتمثيلهُ في جماعةٍ محددة، شرعية أو سياسية أو حزبية أو عسكرية، تنطلق من ظروفها الخاصة وأحوالها المُعيّنة، وتتحرك بناءً على حدود علمها التي كثيراً ما تكون في غاية القصور، لتقوم بأفعال وتصرفات، وتصنع قرارات ومخططات، تتجاوز بكثيرٍ قدرتها على الإحاطة، وينتج عنها مستتبعاتٌ تؤثر في مصير السوريين جميعاً، دون امتلاك المقومات والشروط المطلوبة لإصدارها بما يحقق المصالح العامة.
إسلامٌ لا يسمح بأن يطغى على المجتمعات أنصافُ متعلمين ينطلقون في (معاركهم) من بضاعةٍ مزجاةٍ في العلم، شرعياً كان أو غير ذلك، ولا شخصياتٌ مريضة تُنفس عن مآزقها العقلية والنفسية بلباس الحماسة والغيرة على الدين.
إسلامٌ يعيش فيه أهلهُ حالة (حُسن الظن) بالناس وب(الآخر)، ولديهم القابلية للحوار مع الأفكار، ومحاولةَ قراءتها بحياد، والتفكيرَ في دلالتها بموضوعية، وعندهم القدرة على الاعتراف الواضح والصريح بالخطأ، وعلى ممارسة المراجعات، دوماً، دون خوفٍ موهومٍ على الإسلام، أو احتكارٍ لفهمهِ وتنزيله، أو توظيفٍ له للحفاظ على مواقع النفوذ والقوة والسلطة.
إسلامٌ يتجنبُ معتنقوهُ عقلية التماهي العميق والمستمر بينهم وبينه. ويدركون الفارق بينه كدين، وبين (التديُّن) كفعلٍ بشري يُمارسه الإنسان على طريق محاولة تمثُّل قيم الدين وتحقيق مقاصده.
إسلامٌ يكون مرادفاً آخر لمفهوم (الإصلاح) و(البناء) الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، بشكلٍ يؤكد على (العودة) إلى العصر والدخول في الزمن الراهن للعيش في (الحاضر) بدلاً من المحاولات المستمرة للهروب منه، إما إلى الماضي، أو إلى مستقبلٍ بعيد في (الآخرة)، بداعي كون الحياة بكل مكوناتها (ابتلاءً) و(فتنةً) ما من سبيل للتعامل معهما إلا بشكلٍ عابر، تمهيداً ل(خَلاصٍ) لن يأتي بغير انتهاء الوجود البشري الشخصي أو العام.
إسلامٌ يحض على العلم والتخطيط والتنمية والإدارة والتنظيم، وعلى فهم العالم والاهتمام بالشأن العام وقراءة سنن وقوانين إعمار الأرض، وعلى التركيز على الحاضر والمستقبل.
إسلامٌ لا يحرصُ بِهَوَسٍ على تجميد الزمن، وعلى محاصرة وتنميط الفعل البشري في قوالب محدّدة ومحدودة من الممارسات، وإنما يتمحور حول التعامل مع حاجات الناس وهمومهم وتطلعاتهم وتحقيق نفعهم ومصالحهم، ويدفع لحصول ذلك بلغة العصر وأدواته، آخذاً بعين الاعتبار كل ما في الواقع الإنساني من حيويةٍ وتعقيد وتغيير واختلاف وتناقض وتوازنات، بعيداً عن شعارات (المفاصلة) مع هذا الواقع وإنكار حقائقه ومكوناته.
إسلامٌ لا يغرق في تبرير الواقع القائم بقصدٍ أو دون قصد. وتُربى فيه الأجيال على أن واقع الظلم والفساد والتخريب الممنهج في كل مجالات الحياة، والممارسات التي تقف وراء ذلك الواقع، هي في حقيقتها أكبرُ انتهاكٍ لتعاليم الدين، وأعظمُ في تأثيرها السلبي من انتهاك بعض أوامره ونواهيه على المستوى الفردي.
إسلام حقيقي كبير لا يخاف من انتماء أتباعه إلى (شعبٍ) و(وطن)، فضلاً عن استحالة خوفه من مجرد ذكر هذه الكلمات، حتى لو كان من تلك الشعوب وفي تلك الأوطان من لا ينتمي للإسلام، ويؤكد على وجوب التعامل مع هؤلاء كإخوةٍ في الوطن والإنسانية، خاصةً إذا كانوا من العاملين لتحقيق معاني الكرامة والحرية الإنسانية بأي شكلٍ وطريقة.
إسلامٌ يُعلِّم أهله أن الاختلاف سنّة الكون والحياة. وأنه سبيلٌ للتنوّع والتكامل والثراء والتطور الثقافي والاجتماعي والاقتصادي. ويُبصرهم بضرورة وإمكانية تجاوز مشاعر الطفولة الإنسانية المتمحورة حول (الأنا)، وبكيفية الارتفاع عليها عملياً. ويربيهم على أن (الاختلاف) ليس مدعاةً ل(الخلاف)، وأن قبوله لا يعني بالضرورة السقوط في أفخاخ الذوبان الثقافي والدونية والتبعية، كما يتوهّم الكثيرون.