الرئيسة \  واحة اللقاء  \  بين (أسلمة سوريا) و(الثورة في إسلامها).. ملاحظات منهجية (7)

بين (أسلمة سوريا) و(الثورة في إسلامها).. ملاحظات منهجية (7)

15.12.2014
د. وائل مرزا



المدينة
الاحد 14-12-2014
لم يقتصر العجز عن استلهام قيم الإسلام الأصيلة وتنزيلها على الواقع، فقط على الإسلاميين السوريين العاملين في مسار السياسة، وإنما امتدت المشكلة، وآثارُها، لتشمل الغالبية العظمى من العاملين في المسارين الآخرين من المسارات الثلاثة التي تصدى أهلها لقيادة الثورة، باسم الإسلام، بشكلٍ أو بآخر.
ثمة حاجة للتذكير أن المُراد لا يكمن في (نقد) من نتحدث عنهم في هذه السلسة من المقالات، وإن كان هذا طبيعياً، بل ومطلوباً، في مقامات أخرى. كما ينبغي التأكيد، مرةً أخرى، أننا أبعدُ ما نكون عن الحكم على النيات، فهذا مجال خارج إطار العلم البشري، بالنسبة لنا، ونتركه للعليم به، الخبير بمكنوناته.
وإنما المطلوبُ، بناءً على منهج البحث في الموضوع، استخدامُ المثال العملي الصارخ لتبيان إشكالية الفهم السائد للإسلام، في سوريا تحديداً، وبالتالي، لإظهار المشكلات الكبرى التي تتشكلُ، وتصبح جزءاً من الأزمة، بدل أن تكون جزءاً من الحل. وذلك حين يحاول الناطقون باسم هذا الإسلام تنزيل الفهم المذكور على واقع سوريا في ميدان السياسة، كما عرَضنا في الحلقة الماضية، أو في ميداني العمل العسكري والشرعي كما سيتلو في هذا المقال والذي يليه، ولو باختصارٍ سيجري تفصيله لاحقاً في كتاب.
تكثرُ، في الحقيقة، المشكلات التي نتحدث عنها في الميدان العسكري، لكننا سنكتفي بظاهرتين من أخطر الظواهر، وأسوئها تأثيراً في الثورة السورية، فضلاً عن دلالاتها في إيضاح التشويه العميق في فقه الدين، بغض النظر عن النيات والمُبررات.
فمنذ بداية غلبة المظاهر الإسلامية على العمل المقاوم المُسلح، كان مُعبِّراً ولادةُ مئات الفصائل العسكرية التي تندرج في خانة الوصف بأنها إسلامية. والأغرب أن الظاهرة استمرت من تلك الأيام المبكرة إلى نهاية عام 2013م تقريباً، حين دخلت (داعش) على الخط وأكلت معظم الفصائل الصغيرة أو شتتتها، لكن الغريب أنه حتى هذا الحدَث لم يدفع الفصائل الكبيرة للوحدة.
هل غفل الإسلاميون المقاتلون أن الفرقة والتنازع سيؤديان إلى (الفشل وذهاب الريح)؟ هذه مصيبةٌ تُلقي ظلالاً كبيرةً من الشك على فهمهم للإسلام في مجالٍ يتعلق بنشاطهم تحديداً، ولا يمتلكُ أهليةَ العمل فيه من تُوجد فيه مظنةُ الجهل بتلك القاعدة.
لا داعي للحديث هنا، فيما نحسب عن (التجارب) التي صاحبها ضجيجٌ إعلامي وشعاراتٌ كبيرة، ولا عن الخيبات التي نتجت عن فَشَلها المتكرر، بين السوريين، وعن الآثار المدمرة المعنوية والنفسية والعملياتية التي سبَّبَها ذلك الفشل، وهي آثار سلبيةٌ جداً بمقاييس العلوم الاجتماعية والإنسانية، ولها نتائجُ ليست فقط أَمنيةً قصيرة المدى على المجتمع حولها، بل ومستتبعات إستراتيجية تؤثر في مصير سوريا، بحيث لا يمكن أن نتجاهل وجودها، ولا نحسب أن أهل (التجارب) في وارد التفكير بها للأسف.
يتوزع تفسير هذه الظاهرة بين التنافس على المواقع والنفوذ والقوة، أو الطاعة العمياء لمصادر التمويل، أو في احتكار كلٍ من هذه الفصائل لـ"إسلامٍ" يختلف عن الإسلام الذي ينطلق منه الآخر، وكل منها يحسبُ أن (إسلامه) هو الإسلام الصحيح دون غيره.
والتفسيراتُ الثلاثة المطروحة أعلاه تقذف، مُنفردةً أو مجتمعة، في وجوهنا جميعاً، أسئلةً تُعيد إحالتنا إلى الأزمة التي نتحدث عنها فيما يتعلق بفهم الإسلام.
في جميع الأحوال، يبدو واضحاً أننا أمام حالة، إما أنها لا تُدرك ترتيب الأولويات في مجالات العلاقة بين المصالح العامة المتعلقة بالبلاد والعباد، والمصالح الخاصة المتعلقة بالفصيل وقياداته. أو أنها تُدرك ضرورةَ تغليب معاني التجرد والإخلاص في هذا المجال الحساس تحديداً، لكنها لا ترتقي إلى مستوى المسؤولية من خلال العمل بمقتضى تلك المعاني بدرجاتٍ عالية من الجدية والصدق والعزيمة.
أما الظاهرة الثانية في مجال فقه الإسلام وتنزيله على واقع سوريا، وثورتها، فيتمثل فيما مارسه غالبية العاملين في الميدان العسكري، باسم الإسلام، من زراعة البذور المبكرة لـ(دَعشَنة) أجواء الثورة، ثم أشخاصها وأحداثها. حصلَ هذا بدرجات متفاوتة، والمؤكد أنه بدأ عند الكثيرين بـ (نيةٍ طيبة)، لكن جزءاً كبيراً من المشكلة يتمثل في هذا الأمر، لأنه يعني (الإخلاص) في تنزيل الإسلام، غير أن الحديث هو عن (إسلامِ) مَن يُطبِّقُهُ، وهؤلاء كُثر، واختلافهم أكثر.
هنا اختلط الحابل بالنابل، فإما أن يحصل التطبيق في كثيرٍ من الأحيان على يد من يفتقرون لأي درجةٍ من العلم، وأحياناً الالتزام، بالإسلام. أو أن يكون على يد (هيئات شرعية) بدأت تظهر بعد ذلك، لكنها تحملُ رؤيةً حرفية تقليديةً للدين، هي في كثيرٍ من ملامحها (مستوردة) من بيئاتٍ أخرى، كان تأثيرها واضحاً ومعروفاً جداً في أوساط المطلعين في البداية، ثم لدى أغلب السوريين بعد ذلك.
نعم، أفلحت جهاتٌ معدودة في ضبط الأمن ومحاربة المجرمين والمتسلقين على الثورة في بعض المناطق، وعملت على تقديم بعض الخدمات للسكان هنا وهناك، لكننا لم نقل أبداً إن كل ما صدر عن الإسلاميين السوريين شرٌ مُطلق ليست فيه بقعةٌ بيضاء (وقد سبق أن تحدثنا عن إيجابيات بعض الفصائل في مقالات سابقة).
رغم هذا، لا يمكن التعامل مع مثل هذه الظواهر الاجتماعية والثقافية الكبرى إلا بحسابات كبرى بِدَورِها، تتعلق بمصالح الناس وبلدهم على المستوى الإستراتيجي، وبصورةٍ أكثر تعقيداً من أن يمكن اختزالها في تلك الممارسات (الجيدة).
من هنا، تمثلت المشكلات الكبرى التي نتحدث عنها في مظاهر كثيرة، بدءاً من الانتشار التدريجي لممارسات التحريم والمنع والإجبار وملاحقة الناس وضمائرهم ومصادرة حقوقهم. وتمّت محاصرة معاني الحرية شيئاً فشيئاً. وجرى تضييق معاني الاستقلالية والاختيار الشخصي، وحورب الإبداع في مجالات الفكر والثقافة والأدب والفن، حتى لو كان لخدمة الثورة.
فوق هذا، تصاعد الحديث عن دويلات وإمارات إسلامية، وساد (تطبيق الشريعة) في مناطقَ مقطعة الأوصال بشكلٍ عشوائي، وفي ظروف استثنائية غلبَ فيها، فوق الفوضى الأمنية والاجتماعية والاقتصادية، الفوضى العلمية والشرعية، التي لا يمكن لها أن تُعتبر بمجملها ظروفاً تسمح بذلك التطبيق حتى بمقاييس الشريعة السائدة نفسها. وغُيبت معاني الوطن والمواطنة، أحياناً إلى درجة التحريم. وتم تكفير المعارضين الآخرين من السياسيين وغيرهم، أفراداً ومنظمات، أو مقاطَعتُهم بالكامل، في أحسن تقدير، بدعاوى التخوين والعمالة.
بعدها، جاءت (داعش)، فهادَنتها كل الفصائل في البداية باسم (أُخُوَّة المنهج)، وكان هذا طبيعياً جداً، لأن كل ما سبق كان فعلاً، منهجاً مُشتركاً. لكن (داعش) بادرت في سحب الممارسات السابقة إلى نهايتها الطبيعية، ثم كان ما كان بعد ذلك على الأرض السورية.
يؤلمُ هذا التحليلُ الكثيرين، ويمكن أن يتعاملوا معه بالقفز على منطقه المحدد إلى الحديث عن تضحيات بعض الفصائل وزهد بعض قياداتها، ووجود معاني التجرد والإخلاص فيها، لكن هذا لا يغير، للأسف، شيئاً من الحقائق المذكورة أعلاه، والتي تصرخ بالحاجة إلى مراجعاتٍ جذرية، وإلى فهمٍ جديدٍ للإسلام في سوريا الثورة.