الرئيسة \  واحة اللقاء  \  تأملات في المشهد السوري الراهن

تأملات في المشهد السوري الراهن

17.10.2015
محمد علي المحمود



الرياض
الخميس 15/10/2015
لقد تعذر على سورية الاستقرار – ولو في حدوده الدنيا - في التجربة الديمقراطية السورية الأولى منتهى الأربعينيات ومطلع الخمسينيات، يوم أن كانت التجاذبات الإقليمية أقل بكثير مما هي عليه الآن. فكل الحكومات آنذاك، الديمقراطية، أو التي كانت ديمقراطية مزيفة على خلفية انقلابات عسكرية!، كانت تحكي قلقا وتوترا اجتماعيا؛ أكثر مما كانت تعني إرادة تعايش وسلام وبناء أوطان.
كانت الروح التفاؤلية المؤمنة ب(خيريّة الإنسان) وب(التقدم الإنساني) هي التي قادت رحلة الانبعاث الحضاري الغربي، الذي بلغ قمة تألقه الإيماني بالإنسان في عصر التنوير. وبقدر ما كان هذا الإيمان يقود الغرب إلى تحقيق مزيد من الانتصارات المبهرة في مضمار الرقي الإنساني الذي تتجذر فيه حقوق الإنسان، وفي مضمار التقدم التقني/ التنموي؛ كان هذا الإيمان بالإنسان يتعزز باستمرار حالة التقدم.
ولقد كان القرن التاسع عشر ميدان تحقق الكثير من مكونات هذا الإيمان المتفائل، إذ هو القرن الذي بدأت تترسخ فيه – ثقافيا وعمليا - حقوق الإنسان الأولى التي دعا إليها مفكرو التنوير في القرن السابق، كما أنه قرن الصناعة الذي نقل أوروبا – ومن ورائها العالم - من حال إلى حال.
لكن، لم يكد العالم الغربي يتجاوز العقد الأول من القرن العشرين في أجواء متفائلة بتكوين ما يشبه النظام العالمي الضامن للسلام الدولي؛ حتى انفجرت براكين الحرب العالمية الأولى، مخلفة وراءها مآسي بشرية لم تدر بخلد أحد من قبل. انفجرت في الوقت الذي كان الغربي يظن أنه قد تجاوز الحروب البَيْنية في القارة الأوروبية، والأخطر أنها انفجرت لأسباب هي في الظاهر تافهة، ولكنها مجرد شرارات لأسباب أكبر وأعمق.
المهم، أن الحرب كشفت للإنسان الغربي عن هشاشة الحضارة التي بناها، أو كما يُقال: قشرة الحضارة، وهزّت إيمانه بالإنسان من جذوره، حيث انحدرت أوروبا بكل زخمها الحضاري إلى التوحش الذي لا يختلف كثيرا عما كانت عليه في عصور الظلام، إذ لم تختلف إلا عناوين الحرب وشعاراتها وأسبابها المعلنة، وأما ما سوى ذلك، فقد بدا الإنسان عاريا إلا من (ذِئْبيته) التي لم تمت قط، وإنما بقيت كامنة في الأعماق.
ويوم أن استفاق هذا العالم من أهوال الحرب الأولى، مدعوما بوعي متقدم لا يمكن إنكاره، كان كثيرون قد فقدوا ثقتهم بالإنسان وبالحضارة على حد سواء. ومن هنا، ظهرت وتكاثرت المذاهب العدمية، وبرز المبشرون بنهاية الحضارة الغربية، وبدأ الأدب بوصفه الوجه الإنساني الأبرز، يتبنى اللامعقول كمذاهب فنية، على مستوى الأفكار وعلى مستوى الأشكال، بوصفه تعبيرا عن تهاوي المعقول الحضاري الذي تم الرهان عليه سابقا ليكون ضمانة للخير الإنساني العام.
ويزداد الأمر سوءا، فبينما كان الإنسان الغربي، والأوروبي خاصة، يحاول استيعاب صدمة السنوات الأربع (1914 1918 م) بأهوالها، محاولا الاحتفاظ بشيء من التفاؤل الذي يبقيه متماسكا، انفجرت براكين الحرب العالمية الثانية في مدى لا يتجاوز عقدين من نهاية الأولى. انفجرت هذه الحرب بما هو أشد وأعنف من الأولى، ولم تخرج أهم دول أوروبا من بعدها إلا ركاما، ركام بنيان وركام إنسان. وبهذا، بدأ الغرب يعي تماما أن انزلاق الإنسان المتحضر إلى قاع التوحش أمر في غاية البساطة، وأن كل التحصينات الحضارية ذات الطابع الأخلاقي المرتبطة بالثقافي العام سرعان ما تتهاوى. وبالتالي، لا بد من ضمانات حقيقية، لها طابع قانوني، مدعومة بإرادة عالمية تمتلك القوة الكافية للردع؛ لأن الاتكال على الضمير الجزئي للدول أو للأشخاص، مهما كان عاليا، لن يكون كافيا؛ لأنه للدول والجماعات تقلّباتها المزاجية الخطيرة التي تشبه التقلبات المزاجية للأفراد.
وإذا كانت هذه هي حال الأمم المُعْرِقة في التأنسن الحضاري، فكيف تكون الحال في المجتمعات/ الدول العربية التي لا تزال تعيش داخل الإطار الثقافي للقرون الوسطى؟!.
وإذا كانت الأمم المتحضرة سقطت في أتون التوحش بعد قرن ونصف من ترسخ التنوير، فكيف بشعوب وقبائل وثقافات لا تزال لم تؤمن بعد بالمقولات الأساسية لخطاب التنوير، بل لا تزال تعادي تلك المقولات، وتؤمن بنقائضها؟!.
وإذا كانت أوروبا بفلاسفتها العظام، ومفكريها الكبار، وجامعاتها العريقة، وشركاتها العملاقة (والاقتصاد الكبير من كوابح الحروب البَيْنيّة)، ومراكز أبحاثها، ومجالسها النيابية العريقة..إلخ المؤسسات الراسخة؛ سقطت في إغراء الصراع بأسرع من لمح البصر، فكيف بشعوب/ أمم مفككة أصلا، أمم تائهة، بلا فلاسفة حقيقيين، ولا مفكرين كبار (والنادر في حكم المعدوم)، وبلا إرث تنويري يُرجع إليه، وبلا مؤسسات راسخة يُحتكم إليها، ولا مصالح مشتركة حقيقية تُجبر الفرقاء على الاجتماع في مواجهة الآخر الإقليمي والعالمي؟!.
لا يخفى أن المشرق العربي خاصة، زاخر بالتنوع المتجذر في عمق التاريخ. بل إنه ليس تنوعا في الأديان وفي المذاهب وفي الأعراق وفي التوجهات الإيديولوجية، داخل القطر الواحد فحسب، بحيث يكون إشكالية قطرية خاضعة لظروف هذا القطر أو ذاك، وإنما هو تنوع يتمدد – متداخلا – مع مكونات إقليمية وعالمية، لا يمكن عزل بعضها عن بعض. وبالتالي، فما يؤثر في قُطْر؛ لا بد – شئنا أم أبينا – أن يؤثر في عدة أقطار أخرى، إلى درجة تتحول فيها الحلول المُجْتَرَحة إلى إشكاليات؛ بفعل تصادمها مع امتدادات التنوع في الأقطار الأخرى.
وإذا كان هذا الوضع البائس هو واقع حال المشرق العربي عموما، فإن الواقع السوري أشد بؤسا، إذ هو ليس موطنا خصبا لكل هذا التنوع والتجاذب فحسب، وإنما تحكم عليه الجغرافيا بما هو أبعد من ذلك، فالموقع الجغرافي ليس محايدا ولا شبه محايد، بل هو انحيازي بالضرورة، إذ يقع على خطوط تقاطع المصالح الإقليمية والدولية. وهذا، مع امتدادات التنوع الإقليمية والدولية، يجعل الحل أكبر من السوريين أنفسهم، كما هي الحال في لبنان الذي هو (خشبة المسرح) التي نرى عليها الواقع الإقليمي بكل تعقيداته مُصغّرا.
ومهما قلنا عن سورية ولبنان في مسألة التنوع، فلبنان ليس إلا سورية مصغرة، وسورية ليست إلا لبنان مكبرة، وهما - في النهاية –: لبنان السوري أو سورية اللبنانية!، لا توحيدا لقطرين مستقلين، وإنما للتطابق الهوياتي، والتعانق المصيري، الممتدين من عمق التاريخ إلى الأفق الذي يتراءى فيه المستقبل الموعود.
من السهولة بمكان التفكير في السياسة بعيدا عن الواقع، أي بلغة: يجب، ولا يجب. لكن السياسة – دائما، كانت؛ ولا تزال -: بنت الواقع.
لقد تعذر على سورية الاستقرار – ولو في حدوده الدنيا - في التجربة الديمقراطية السورية الأولى منتهى الأربعينيات ومطلع الخمسينيات، يوم أن كانت التجاذبات الإقليمية أقل بكثير مما هي عليه الآن. فكل الحكومات آنذاك، الديمقراطية، أو التي كانت ديمقراطية مزيفة على خلفية انقلابات عسكرية!، كانت تحكي قلقا وتوترا اجتماعيا؛ أكثر مما كانت تعني إرادة تعايش وسلام وبناء أوطان.
ومَن يرد معرفة الواقع السوري، فليتذكر هذه الحقبة المشار إليها آنفا، والتي كشفت فيها الديمقراطية والانقلابات عن تعذر الاجماع السوري. أما من ينظر إلى الحقبة التالية (خاصة ما بعد 1977م حيث استطاعت الدكتاتورية الأسدية كبت كل أشكال التنوع لصالح نظام شمولي شخصي، يتمحور حول الطائفة، ومن بعد يضيق، فيتمحور حول العائلة، مع بقاء الطائفة خط المواجهة الأهم، فيما يخص عصب النظام)؛ فلن يستطع معاينة الواقع الحقيقي للأرضية السياسية والاجتماعية في سورية.
إن الكبت/ القمع استطاع رسم صورة ظاهرية للاستقرار والتوحد والسلام الداخلي، ولكنه لم يستطع نزع فتيل الصراع الفئوي – بأنواعه - على الأمد البعيد، بل إن هذا الكبت هو ما يغذّيه، ويجعله أشد عنفا لحظة انفجاره برفع الغطاء القمعي عنه. وهذا ما حدث عند أول بادرة فتحت نافذة اجتراء على تحدي جبروت النظام القمعي. بمجرد تراخي قبضة القمع، قام الصراع المختمر على مدى عقود بالتعبير عن نفسه بعنف، وزاد من دائرة اتساعه أن نظام القمع لم يكن يملك أية ميزة غير القمع، فهو ليس مجرد نظام فاشي فحسب، بل هو نظام حقق أعلى معدلات الفشل التنموي بامتياز.
ويستطيع المراقب أن يقول دون تردد: إنه نظام مارس – عبر الأنظمة شبه الاشتراكية الفاشلة – دورا متعمدا في (تفقير) الشعب، الذي بات يلهث من الصباح إلى المساء لكسب رغيف الخبز الجاف من جهة، ولتفادي مخالب الأجهزة الأمنية المتوحشة من جهة أخرى.
إذا كان هذا الواقع المأساوي يُشكّل أرضية خصبة لثورة ما، فإنه ليس أرضية خصبة لصناعة واقع ديمقراطي. لا يجب ألا يغيب عنا أن النظام الأسدي وهو يصنع نظامه القمعي الجهنمي، لم يصنع مكوناته من العدم، بل من واقع ثقافي وإنساني موجود، استثمر فيه النظام، وبدأ في التطور المتدرج؛ ليصنع الأسوأ فالأسوأ. وكانت النتيجة: تجذّر الرؤى القمعية، وارتفاع درجة العصبيات البينية، التي ستتحول بدورها إلى أرضية خصبة للأصوليات الدينية المتعصبة، هذه الأصوليات التي ستكون سيدة المشهد النضالي ضد النظام، وستضطر التيارات النضالية المدنية و(الدينية المعتدلة!) إلى التواري خلفها، أو الاندثار؛ لأن مكونات الواقع تخدم رؤى النفي والإقصاء والكبت، ومن ثم حتمية الصراع، ولا تدعم رؤى التعايش والتسالم والاعتراف المتبادل، ومن ثم القناعة بسقف ديمقراطي يسع الجميع.
هذه هي حال الواقع السوري في الداخل. وهو واقع مأساوي، لا يدفع باتجاه التوافق الديمقراطي بأي حال من الأحوال. ويزيده مأساوية، أن خطوط المصالح الإقليمية والعالمية تسير أيضا باتجاه سلبي لا يأخذ في اعتباره مصلحة الشعب السوري المتطلع للتحرر.
وللأسف، بقاء النظام ورموزه، بقدر ما تدفع إليه حالة التشرذم والاحتراب وغياب الخيارات المعتدلة داخل المعارضة؛ بقدر ما تدفع إليه مصالح معظم الدول الإقليمية والعالمية. وثمة ارتباط بين غياب البديل المناسب داخل المعارضة، وبين معيارية ضبط تلك الدول لوجهة مصالحها، حيث يكون الأقوى، والأكثر توحدا، هو الخيار الوحيد في واقع اللاّخيار!. وهكذا تصل بنا الآفاق المسدودة إلى حلول مجهضة غير قادرة على الفعل في الواقع.
والسياسة بطبيعة الحال تشتغل على النسبيات، ولا مكان للمتعاليات النظرية فيها؛ مهما كان حجم (الإيمان الصادق) بها، ولغتها السائدة – أي السياسة – ذات معقولية تؤكد أن بعض الشر أهون من بعض، عندما يكون الخير المأمول في حكم المستحيل.