الرئيسة \  واحة اللقاء  \  تأملات في صدّام وبشّار وداعش

تأملات في صدّام وبشّار وداعش

08.07.2014
باسل الجنيدي


الحياة
الاثنين 7/7/2014
يــكون مزاج أغلب القنوات التلفزيونية عـكـــراً فـــي الصباح الباكر. تبدأ نشراتها الإخبارية بخبــر سيطرة داعش الإرهابية على مدينة عراقية جديدة، ويتحسّن المزاج شيئاً فشيئاً بعد القهوة الصباحية وانحسار موجة الحر بعد الظهيرة، وما إن يخيّم الظلام وتبدأ ليالي السمر، حتى تبدأ القناة ذاتها نشرتها المسائية بصياغة أخرى، تتحدث عن سيطرة "ثوار العراق" على المدينة.
يبدو العالم مرتبكاً وكاريكاتورياً أكثر من أيّ وقت مضى. يخرج أوباما بحديثه الرتيب المعتاد، ويؤكد أن الولايات المتحدة لن تتدخل في العراق، ويستجديه روحاني في اليوم التالي، ويصرّح من دون أن تبدو عليه علامات الخجل، أنّ إيران قد تقدم يد العون لأميركا إن غيرت قراراها وبادرت بالتدخل في العراق. أثناء ذلك يمارس بشار الأسد رياضته الصباحية المعتادة، بحسب جريدة "الأخبار"، ولا يجد داعياً لمراجعة مختصٍّ نفسي، بينما يصرّح: "فهم العالم أخيراً أن ما قلته قبل ثلاثة أعوام في خطابي الأول كان صحيحاً"، ويبقى بان كي مون المسكين الوحيد الذي ينهشه القلق!
وطالما أنّ حدود "الدولة السنية" الحديثة لم تستقر بعد، فهذا لن يسمح لنا الآن بقياس مساحتها جغرافياً وعدد سكانها، ولو أن امتدادها من ريف حلب الشرقي حتى حدود بغداد حتى الآن يجعلها ربما من أكبر دول المنطقة، كما أن سيطرتها على آبار النفط التي تدر ملايين الدولارات على داعش يجعلها تملك اقتصاد حربٍ يكفيها لتنفلت من عقال سيطرة أي داعم أو ممول، وتكفيها "ترسانتها العسكرية" بما غنمته وصنّعته واشترته للتمدد شيئاً فشيئاً، وهي ترسانة لم تعد تقتصر على الأحزمة الناسفة والبنادق والدبابات والهاون والمدرعات، بل حتى سيارات الهامر، وربما الطائرات.
حينما أعلن أبو بكر البغدادي في 9 نيسان (أبريل) 2013، عن قيام "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، بدا الأمر أشبه بالطرفة، لم يأبه الكتّاب والمحللون والسياسيون لهذيان هذا الرجل، ولم تتجاوز ردود الأفعال "الإفيهات" الفايسبوكية. بدا "مشروع داعش السياسي" أشبه بمشروع منافستها الافتراضية والهزليّة "دانس"، "دولة الإسماعيلية في النهر والسلميّة".
لا يهمّ اليوم أن تكون "داعش" هي من تتقدّم في العراق أو العشائر السنيّة الحليفة أو الثوّار العراقيون، فالمصطلح أقلّ أهمية بكثير مما تظنّ القنوات التلفزيونية المرتبكة، فحينما تُترك الموصل من دون مسلّحين بعد تخليصها من جيش المالكي، فهذا لأنّ الأرض أصبحت تتبع للدولة "السنيّة" الحديثة من دون حاجة لبقاء المسلحين فيها، فالآن لهم أن يتفرّغوا للجبهات ويكملوا رسم حدود الدولة ويتركوا إدارة المدن التي انتزعوها لـ"حاضنتهم الشعبية"، ولنا أن نكتشف أن المشروع السياسي للبغدادي يمتلك مقومات قيامه، بل ربما استمراره لفترة طويلة أيضاً!
هذه الدولة الحديثة امتدادٌ حتمي لحزب البعث في ظلّ المظلومية السنيّة والضوء الأخضر للتمدّد الشيعي خلال الفترة الماضية، ولا يتعلّق هذا التوصيف بكشف وسائل الإعلام عن هويّات قيادات داعش وترويجها أنهم من المجندين السابقين في الجيش العراقي، أو بالإشاعات التي تتحدث عن كون عزة الدوري قائداً ميدانياً للعمليات العسكرية، بل يتعلّق بكون صدام حسين قد قام، حقاً قام بهيئة شنيعة جديدة، بلحية و "باكستانيّة" وساطور متحفّز لقطع الرؤوس وحزامٍ ناسف، وكان محتّماً له أن يقوم بهذه الهيئة بعد أن أعدم في أول أيام العيد، وسُلّم العراق لإيران، وبعد 200 ألف شهيد في سورية، وبعدما اقتربت نسبة الفقراء من السوريين من 90 في المئة، وفق الأمم المتحدة، وبعدما دمّر ثلثا المنازل، واستخدم الروس والصينيون عدداً يؤرق ذاكرتي من الفيتو، وتراجعت أميركا عن ضربتها العسكرية، وزحف عشرة آلاف مقاتل شيعي للحرب مع النظام، وبعد كل مناسبة يسمح فيها لمريض نفسي دموي أن يمارس الرياضة في الصباح، ويتفاصح للصحف عن حذاقة نظرته في المساء!
منذ أخرجت "داعش" من حلب، بدأت حملة البراميل وسوّيت أغلب أحياء المدينة بالأرض وأفرغت من السكان، وبقيت داعش آمنة في الرقة، فيما لم تهنأ الكتائب التي حاربتها بليلة هادئة من يومها. كان صعباً على السوري الذي يحارب النظام أن يرفع بندقية في وجه من يسانده في حربه، والأصعب أن يكون هذا الآخر يرفع راية الإسلام، إلا أنّ الحرب على داعش، التي دفعت كتائب الجيش الحر والجيش الإسلامي آلافاً من عناصرها ثمناً لها، كانت حرباً عفوية لم يسبقها أي قرار سياسي أو دعم، ولو برصاصة، على عكس ما يظنّ الجميع، بل إن قيادات "جيش المجاهدين" الذي بدأ الحرب كانت خارج البلاد تتوحّد في اجتماعٍ مغلق، ولم تكن أصلاً على معرفة بأنّها "علقت!" في الريف الغربي لحلب، ومن ثمّ في المدينة.
بعدما "قام صدام"، أصبحت الثورة السورية أمام مفترق طرقٍ تاريخي، فإما أن يندثر المشروع الوطني فيها للأبد، وتبتلعها الدولة السنية الحديثة، وإما أن تنهض لتحارب أعداءً يحاصرونها من كل مكان. أقرّ أوباما دعمها بالسلاح أخيراً ومتأخراً جداً، فإن لم يكن هناك تغير جوهري في السياسة الأميركية، وإن لم يتحسس الأسد رقبته قريباً، فعلى الثورة، وسورية، وربما المنطقة السلام. وللأسد أن يتبجّح بأنه لم يُلسع، على رغم أنه قال يوماً منكراً علاقته بداعش: الإرهاب كالعقرب، إن وضعته في جيبك قد يلسعك.