الرئيسة \  واحة اللقاء  \  تحديات انحسار أميركا عن المنطقة

تحديات انحسار أميركا عن المنطقة

29.06.2015
مصطفى كركوتي



الحياة
الاحد 28/6/2015
قد يسيء قارئٌ فهمَ القول أن انسحاب القوات الأميركية من المنطقة، وتحديداً من أفغانستان ومن ثم العراق، وإحجام الولايات المتحدة عن التدخّل في سورية، فتحا الباب أمام انتشار تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، بأنه دعوة الى عودة الوجود العسكري للولايات المتحدة إلى المنطقة. لنفترض أن هناك قارئاً كهذا، فهذا لن يردع المرء عن التمسّك بهذا الادعاء.
فلا روسيا الاتحادية سارعت إلى نصح نظام دمشق بالعمل وفق صيغة تعايشية ائتلافية مع معارضيه الكثر، تحول دون حدوث مشهد حرب توحّشية غير مسبوقة في سورية، ولا إيران الإسلامية اتّجهت نحو ما يلزم من إجراءات للتهدئة، والدفع نحو التصالح بين أطياف الحرب في البلاد. بل على العكس، موسكو وطهران أجّجتا الأوضاع بقيام الأولى بتزويد نظامٍ آيلٍ إلى نهايته بالسلاح، واحتضان الثانية بالمال والتقنيات والخبراء، إضافة إلى ميليشيات "حزب الله" اللبنانية، لرئيس يتهاوى، انحسرت سيادته الآن إلى ما يقلّ عن ثلث أراضي سورية.
في كل الأحوال، مهما بدت توقعات السياسيين والمعلّقين في الغرب والعالم باقتراب نهاية نظام دمشق سابقة لأوانها الآن، فالمؤكد هو نهاية سورية الأرض والجغرافيا والديموغرافيا كما عرفناها سابقاً. فهذا أمر يجب أن يحتلّ مركز الاهتمام الأول، لما يشكّله مستقبل سورية من انعكاسات حيوية على شكل واستقرار المنطقة وما وراءها. فها هو سفير أميركا السابق في دمشق روبرت فورد، يشرح في تصريحات له نُشِرَتْ "أون لاين"، كيف سيتمّ تقسيم سورية إلى ستة كيانات سيحين الوقت، طال أم قصر، لتطبيع العلاقات في ما بينها من جهة، وبين كل منها مع محيطه الإقليمي من جهة أخرى.
وفي النهاية، لا موسكو متمسّكة ولا حتى طهران ببشار الأسد كمسألة مبدئية. فنظام دمشق يسقط مثل ورق الخريف عندما تجد موسكو مكاناً دافئاً آخر لها في المتوسط، وتتوصّل إلى تفاهم مع أوروبا حول أوكرانيا، وبعدما تُوقِّع طهران اتفاقية الملفّ النووي مع مجموعة الخمس زائداً واحداً (الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وروسيا والصين وألمانيا)، وبدء انفتاح إيران على الغرب المنتظر بفارغ الصبر.
ولكنْ ثمة اعتقاد يشكّك في ذلك ما دام الرئيس الأميركي باراك أوباما "يقود من الخلف" - كما يقال - في سورية والعراق. كثر من السياسيين في الولايات المتحدة، لا سيما بين الجمهوريين، يتّهمون أوباما بتحجيم دور أميركا ومكانتها في المنطقة وخارجها. فهؤلاء يعتبرون سياسته بالانحسار عن الشرق الأوسط والإحجام عن التدخّل المباشر، لا تحول فحسب دون قيام بديل سريع يحافظ على تماسك المنطقة، وتحديداً سورية والعراق، بل يمكن أن تؤدي إلى خلق ظروف واقعية تنتهي بإعادة صوغ شامل ورسم جديد لحدود المنطقة. ما يعزّز هذه الإمكانية، الحرب الشرسة في اليمن نتيجة توغّل إيران في الحديقة الخلفية للخليج وحرب ليبيا القبلية التي تعيد جغرافيا البلاد إلى ما قبل عهد السنوسية.
وهكذا، فمن الواضح أن سياسة أوباما بإعادة "أبنائنا إلى موطنهم"، تركت فراغاً هائلاً في بلاد المشرق يملأه بسرعة "داعش" وتنظيمات إسلامية متطرفة أخرى مثل "النصرة"، نتيجة غياب البديل الوطني الحديث.
فـ "داعش" وحده، وفق التقارير، بات يسيطر على نحو 60 في المئة من أراضي سورية الغنيّة بالموارد وإن لم تكن ذات كثافة سكانية، وعلى أراضي الأنبار الممتدّة حتى الموصل، ثاني أكبر مدن العراق. صحيح أن الولايات المتحدة تقود ائتلافاً كبيراً لشنّ هجمات جوية بتكاليف متصاعدة، لكنه ائتلاف من دون تأثير كبير في قوة "داعش". فواضح أن أولوية أوباما لم تعد في السياسة الخارجية، بل تركز منذ بضع سنوات على إعادة بناء اقتصاد البلاد، إثر الإنفاق غير المحدود لسلفه الرئيس جورج دبليو بوش على حروبه المجنونة في أفغانستان والعراق. ويقدّر ذاك الإنفاق بثلث دين الولايات المتحدة العام البالغ 18 تريليون دولار. ويشير تقرير فصلي قدّمته إلى الكونغرس هيئة التفتيش العامة لإعادة إعمار أفغانستان في تموز (يوليو) الماضي، إلى أن أميركا "أنفقت في هذا السياق في أفغانستان حتى نهاية 2014، أكثر من إنفاقها على 16 دولة أوروبية بعد الحرب العالمية الثانية وفقاً لخطة مارشال".
ولعلّ هذا يوضـــح نوايا أوباما وهو يقترب بسرعة من نهاية ولايته الثانية والأخيرة. فقد أعلن في خطاب له في أيار (مايو) الماضي، إحياءً لذكرى الجنود الأميركيين الذين قتلوا في حروب خاضـــوها خارج أراضي بلادهم: "أفتخر بالإعلان عن أن هذه هي الذكرى الأولى منذ 14 عاماً التي لا تكون فيها أميركا تخوض حرباً في الخارج". واضح أن الرجل يريد أن ينقش اسمه على الحجر بأنه الرئيس الذي أنقذ أميركا من شرِّ أعمالها.
وقد تم تأكيد ذلك بإدراك دول منطقة الخليج العربية أخيراً هذه الحقيقة، وقيامها بنفسها بتشكيل قوة ائتلافية وشنّ هجمات جوية على قوات الحوثيين المدعومة من إيران في اليمن، دفاعاً عن أراضيها وحدودها. فأميركا التي عرفناها قبل عقدين أو ثلاثة عقود، لم تعد أميركا الراهنة. ويتّضح هذا الأمر أكثر في موقف واشنطن الحذر العام الماضي من أزمة أوكرانيا، إذ تمكّنت إدارة أوباما من أن تنزع نفسها من أقرب حلفائها في العالم، أوروبا، تاركةً لدولها التعامل مع الأزمة مباشرة بنفسها. وكان هذا الموقف في مثابة رسالة واضحة إلى جميع حلفاء أميركا في العالم، بما في ذلك العرب.
فأوباما يقول للعالم من دون بيان رسمي، إن أميركا دولة أدمتها حروب جمّة خاضتها سابقاً، وأتت على مواردها وأرهقت اقتصادها لسنوات طويلة. ها هي إذاً أغنى دولة في العالم وأعتى قوة عسكرية، والتي تنفق على التسليح أكثر مما تنفق الصين وروسيا وأوروبا، تتراجع عن المسرح الدولي الآن ما يؤدي إلى حدوث فراغ يملأه "داعش" وغيره من المتطرّفين. هذه الحالة تضع العرب في هذه اللحظة أمام تحدٍّ غير مسبوق في تاريخهم، ليس لدحر "داعش" ووقف التمدّد الإيراني الإقليمي فحسب، بل لاتخاذ الخطى الأولى للخروج من هذه الظلامية الكبرى لتأسيس مستقبل أفضل.