الرئيسة \  واحة اللقاء  \  تحدّيات جدّية في طريق العلاقة العربية - الكردية

تحدّيات جدّية في طريق العلاقة العربية - الكردية

05.11.2014
عبد الباسط سيدا



الحياة
الثلاثاء 4-11-2014
توافق السوريون بفطرتهم السليمة قبل انطلاقة الثورة في ربيع 2011، على أن قوتهم في مواجهة نظام الاستبداد والإفساد تكمن في وحدتهم الوطنية. وهي الوحدة التي طالما عمل النظام على ضربها وتفتيتها، ليجعل منها مجرد إطار لكمّ حسابي، يضم عوامل غير متفاعلة، ترتبط مع مركز القرار المتسلط بعلاقة وحيدة الاتجاه أساسها الفرض من جانب المركز، والانقياد من جانب الأطراف.
وقد جسّد السوريون توجههم هذا في شعارات لامست وجدان الجميع على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم. وهي شعارات عبّرت عن رغبة السوريين في العودة إلى المشروع الوطني السوري، ذاك الذي بدا واعداً يتناسب مع الواقع الجديد في مرحلة ما بعد الاستقلال، والذي سبق أن أجهضه دعاة المشروع القوموي ببعديه الناصري والبعثي. فسرعان ما تبين عجز هؤلاء عن تقديم البديل الذي كانوا يبشّرون به، بل تحوّل مشروعهم مع الوقت إلى مجرد نزعة شعاراتية، تغطي الصراعات بين المجموعات الرامية إلى الهيمنة والتحكم.
من هنا، كان - وما زال - تشديدنا على ضرورة القطع مع كل صيغ التعصّب، سواء الديني/ المذهبي أم القومي أم الأيديولوجي، وذلك انسجاماً مع طبيعة المجتمع السوري المتعدد من جهتي التكوين والتوجه.
وفي المقابل اعتمد النظام منذ اليوم الأول للثورة، ويبدو أنه كان قد استعد لذلك، استراتيجية الربط بين الثورة والإرهاب الأصولي "السنّي" تحديداً. ولبلوغ هذا المأرب، كان حريصاً على إبعاد سائر المكوّنات السورية عن الثورة بمختلف الأساليب، لتأخذ الثورة المظهر الطائفي، وتبدو الأمور كأنها صيغة من صيغ تصفية الحسابات بين الغالبية السنّية والأقلية العلوية. وهي الاستراتيجية نفسها التي اعتمدها حافظ الأسد في الثمانينات، حينما أصدر قانوناً ينص على الحكم بالإعدام على كل من ينتمي إلى جماعة "الإخوان المسلمين"، وذلك في سعي منه لشيطنة الجماعة، واتهامها بكل الصفات السلبية، هذا مع العلم أنه هو نفسه الذي كان قد أسس للتوجه الطائفي في سورية، بخاصة بعد أن عزز العلاقات مع إيران في مرحلة ما بعد الشاه، وأوجد الأرضية لانتعاش أصولية "علوية - شيعية"، إذا صح التعبير، في المنطقة. وهي أصولية كانت أساساً لتشكيل "حزب الله" الذي سرعان ما تجاوز دوره السياسي، ليصبح قوة قتالية، تلتزم بتوجهات نظام ولاية الفقيه.
وقد تمكّن حافظ الأسد بفعل حنكته ونظرته الاستراتيجية من مراعاة التوازن في علاقاته الإقليمية، كما تمكّن في الوقت ذاته من إيجاد شكل من التناغم بين توجهه المذهبي البراغماتي والأيديولوجية البعثية القوموية التي أراد أن يوظفها ضمن سياق مشروعه العام.
أما الأسد الابن، فاعتمد سياسة الاستقواء بالعامل الإيراني من دون إعطاء الاهتمام المطلوب للتوازنات الإقليمية، وذلك لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها الآن. ومع تغلغل النفوذ الإيراني في العراق بعد 2003، واستمرار هيمنته على لبنان عبر "حزب الله" بعد 2005، بات النظام السوري مجرد أداة ضمن ماكينة الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة. وهي التي يبدو أنها لم تعد تقتصر على العراق وسورية ولبنان إذ امتدت إلى اليمن، بوابة الخليج الجنوبية. ولا نذهب بعيداً إذا قلنا إن تركيا نفسها لن تكون بمنأى عن الطموحات الإيرانية التي قد تتقاطع بهذه الصورة أو تلك مع مصالح القوى الكبرى، والتي من الواضح أنها لم تعد تتعامل مع نظام سايكس - بيكو في الإقليم وكأنه من المسلمات البدهية التي لا بد من أن تحترم.
وفي سياق استراتيجيته القائمة على إبعاد المكونات السورية عن الثورة، حاول النظام كسب الكرد إلى جانبه، أو على الأقل تحييدهم وإبعادهم عن الثورة. ويبدو أن نتائج هذه السياسة أقنعت الشريك الإيراني، ومعه نوري المالكي، بإمكانية الاستفادة منها في العراق بطريقة تمكّن من ضرب العلاقة بين إقليم كردستان والمكوّن العربي السنّي، الأمر الذي سيخلط الأوراق جميعها، ويضع الكل أمام تحديات جديدة محمّلة بالهواجس والهيجانات. وهذا ما تمثل في التحوّل المفاجئ في السياسة "الداعشية" على مستوى الأهداف، وذلك بعد الاستيلاء على الموصل الذي يثير هو الآخر من جانبه ألف سؤال واستفسار. هكذا، غدت كردستان هي الهدف عوضاً عن بغداد، ومن ثم كان الهجوم "الداعشي" على منطقة كوباني، الأمر الذي يؤكد سعي الجهات المساهمة المتحكّمة في المشروع "الداعشي" لتوتير العلاقة العربية - الكردية في المنطقة، لمصلحة مخططات لم تتضح معالمها بصورة كاملة بعد. ولكن ما يجري على الأرض يوحي بمخاض تقسيمي قد يكون من البدائل التي تُناقش.
والأمر اللافت أن هذه الجهود التوتيرية بتفاعلها مع المناخ العام، والإرث الأيديولوجي، والذاكرة المفعمة بالمرارات، بدأت تعطي ثمارها بعض الشيء. وهذا ما نلاحظه في الكثير من الممارسات على الأرض، ومن خلال كتابات الكثير من المثقفين والناشطين العرب والكرد.
فالواقع القاسي الذي يعيشه الجميع على مختلف المستويات، والشعور بانسداد الآفاق، إلى جانب حالة التناغم بين المنظومة القوموية العقائدية التي رسخها حزب البعث على مدى نصف قرن، والتوجه العقائدي الإسلاموي في صيغته "الداعشية"، حالة تُستلهم راهناً من جانب أوساط واسعة ضمن المكوّن العربي السنّي سواء في سورية أو العراق. فهذا المكوّن يشعر بأن الاستراتيجية الدولية المعتمدة لمحاربة الإرهاب تستهدفه في المقام الأول، ما يخلق واقعاً صعباً من ناحية، وعجزاً عن مواجهة التحديات من ناحية ثانية، دافعاً بضحاياه نحو البحث عن مخارج وهمية، تزيد الوضع تعقيداً وقتامة.
وفي المقابل يشعر الكرد بأنهم باتوا بمثابة كبش فداء في معركة صراع الإرادات في المنطقة، وهذا على رغم سعيهم المستمر، بخاصة في كردستان العراق، ليكونوا عامل تواصل بين الجميع، وقد عملوا من أجل التهدئة، وترميم الصفوف، وركزوا على علاقات متميّزة مع قيادات وزعامات المكوّن العربي السنّي، بعيداً من المرارات التي كانت إبان نظام صدام حسين.
ولكرد سورية أيضاً تجربة أليمة مع الحكم البعثي الذي رفض الاعتراف بوجودهم القومي، ومارس ضدهم كل الأساليب القمعية والتمييزية التي جعلت منهم أشبه برعايا في ظل نظام أمني يتحكّم بكل مفاصل الدولة والمجتمع، وبمصائر الأفراد.
كل هذه العوامل وغيرها أدت، وتؤدي، بتفاعلها إلى طغيان الأحكام القطعية، والتشخصيات القدحية، والممارسات الغرائزية في أشكالها القبيحة كافة.
من هنا، نرى ضرورة التحرّك الجاد من جانب الجميع، وعلى مختلف المستويات لتطويق ما يحصل، ومصادرة احتمالات الكوارث الأعظم. فالمنطقة تعيش أجواء حرب إقليمية شاملة، وهي صيغة جديدة من الحروب قد يكون مصطلح الحرب ما بعد العالمية قادراً على مقاربتها إلى حدٍّ ما.
إنها حرب تختلط فيها المشاعر الدينية/ المذهبية مع القومية فتهتز الكيانات التي كان من المفروض أن تكون أساساً لمشاريع وطنية.