الرئيسة \  واحة اللقاء  \  تحرير الثورة من ‘تحريفاتها’ لتحرير سورية من استبدادها

تحرير الثورة من ‘تحريفاتها’ لتحرير سورية من استبدادها

01.10.2013
مطاع صفدي



القدس العربي
الاثنين 30/9/2013
المثقفون العرب الذين لا يزالون يراهنون على ‘الربيع العربي’ أنه هو حقاً الآتي بعصر الثورات الجذرية التي سوف تنتشل النهضة الحقوقية الشاملة من مستنقع خيباتها الأيديولوجية والسياسية المتراكمة والجاثمة على صدرها منذ أيام نكبة العصر الكبرى مع ضياع فلسطين وقيام إسرائيل، هؤلاء المتشبثون بصناعة الحلم الربيعي في حد ذاته، بصرف النظر عن طبيعة الأحداث ونوعية الحركات المدعية لشعاراته وأهدافه، لن يكونوا واهمين أو مجرد باحثين جارين وراء سراب في صحارى أوطانهم المقفرة حيثما تتكرر جيلاً بعد جيل، لعبة الجرْي وراء سرابات الآفاق ذات الأضواء اللامعة الباهرة، لكن لا يجد المهرولون في نهاية الشوط سوى الرمال التي تحرق أيديهم، وغبارها الناعم الذي يلفح عيونهم الجافة حتى من دموعها.
أقول لهؤلاء ـ وقد أكون أنا واحداً منهم ـ أنه لأمرٌ جيد أن يظل ثمة رأي ما قادراً على التمييز بين ‘الربيع والعديد من الشلل المدعية لقرابة فكرية أو عضوية منه. أن يبقى للربيع الحقُّ الأخير بإعلان تصديقه على ادعاء الانتماء الموثّق وانكاره للإنتماء الآخر الزائف.
لكن المسألة قائمة عندما نسأل الربيع أن يدلنا على هؤلاء الثوار الذين يصرّ هو على أبوته لهم، بقدر ما يتبجحون هم ببنوّتهم له. تخلص من هذه الاستعارات إلى استعادة الاعتقاد القديم الذي صاحب الاضطرابات الكبرى في التاريخ، وهو أنه لا معايير لأية ثورة تسبق أحداثها، وإن اجتهدت العلوم الإنسانية في وضع تعريفات وشروط عامة لطبيعة الحدث التغييري الكبير الذي يفاجئ مسيرة مجتمع ما، لا نريد هنا أن نستحضر آراء النظريات والأيديولوجيات الجاهزة، إذ أصبح الحدس العلمي الجديد، المجرد عن مؤثرات هذا التراث النظري، يسلم بالحقيقة البسيطة المباشرة والتي تقول: يبدو أن الثورات الكبرى التي غيرت تاريخ شعوبها قد أتت بالنتائج التي لم يكن تتوقّعُها أسبابُها.
من هذا المنظور، علينا ألا نرى إلى ربيعنا كأنه يمسك بعصا سحرية يضرب بها هذا المجتمعَ أو ذاك، ليقلب نظامه رأساً على عقب بين عشية وضحاها، قد يسارع الكثيرون بإصدار الأحكام السلبية، بإعلان اليأس من ثورات تحولت إلى كوارث، فمن ليبيا إلى اليمن إلى سورية، لم تحصد شعوب هذه الأقطار من ثوراتها سوى أعداد القتلى والمشوهين والمهجرين والمشردين، وفي كلا القطرين مصر وتونس، حيثما يُعاد إنتاجُ نظام الاستبداد القديم بأساليب صراع اجتماعي مختلفة، حيثما لا تزال للثورات المضادة جولاتها الشعبوية والسلطوية المتتابعة، فإن كل هذه اللوحة الدموية القاتمة لا تترك بؤرة نور واحدة تجرؤ على كتابة اسم الربيع بأحرف بيضاء، فهل سيصبح الربيع متّهماً بما لم تصنعه يداه، ولكن كيف له أن يبرأ من عواقب هذا المايحدث الرهيب، حتى بات كل شر مستطير تُبتلى به انتفاضةٌ ما سوف يكون الربيع مسؤولاً عنه، لا شك أن الربيع ليس حاكماً لأقدار العرب راهنياً، لكن كأن المصائب السوداء التي تحل بهذا العالم العربي المنكوب، سوف، تُعزى إلى (مرحلته التاريخية) التي أمست المختومة باسمه وحده.
قد تكون من أسوأ هذه البلايا التي يُتَّهم ويُدان هذا الربيع الحزين بهل هو أن أكثر مواسمه من أزهاره الموعودة، سريعاً ما تحولت إلى مواسم أشواك خريفية بل شتائية بائسة، هذه الاستعارة رددتها وكتبتها ألسنٌ وأقلام عربية قبل أن تصبح لازمة موسيقية في كل معزوفة أجنبية تدعي دراسة الحالة الثورية المستعصية في هذا البلد المشرقي أو ذاك؛ لكن ماذا حدث حقاً، وما هي تلك البلية الأسوأ التي عصفت بأنبل ظاهرة تاريخية صميمية فجرّتها انتفاضةُ الكرامة الإنسانية ضد مركب الاستبداد/الفساد، تلك هي بلية ازدواج الثورة بنقائضها من حركات الردّة الإسلاموية وشراذمها الجهادية والتكفيرية، لقد اعتدت أشكال التدين المشبوه بتطرفه وغلوانه وأُميّته (الدينية) الحقيقية، والثقافية العامة، اعتدت على عفوية ثورة الكرامة والحرية المنطلقة أولاً وجذرياً ضد طغيان الاستبداد ورديفه الفساد، وهاهي حركات الرِدّة الإسلاموية تهددها بإعادة إنتاج الاستبداد في أنواعه القصوى، الأشد بدائية ووحشية، على أن تكون هذه الثورة بعينها هي الآلة المفضلة لفبركة أنظمة الطغيان الجديدة.
في كل الانتفاضات التي شهدها ربيع العرب منذ أكثر من ثلاثين شهراً، لم تكن تلك الفصائل الجهادية وأشباهها تتمتع بحضور مؤثر، لا في عوامل تفجير الثورات، ولا في مجال انطلاقاتها الأولى، ولكن طرأت جحافلها بسرعة على جماهير الثورة؛ فلم تكن تلك الحركات لتلتحق بانتفاضات الشوارع الربيعية إلا عندما يتيقن زعماؤها من إمكان نجاح الهبة الثورية. هكذا حدث لثورة مصر كنموذج أكبر عن هذه السلوكية في اختطاف ثورات الشعوب من أصحابها الأصليين، ومن ثمَّ الامتطاء على ظهورها وصولاً إلى الاستيلاء على أنظمة الحكم الوليدة الجديدة، والاحتماء هناك في أعلى القمم الاجتماعية وراء شعارات التغيير عينها، مع تفريغها المنظم من كامل محتوياتها التقدمية، والمدنية. غير أن الجماهير المليونية لثورة مصر استطاعت مباشرة استرداد المبادرة من أيدي لصوصها. انقذت أقدم دولة في العالم، ولدت منذ أربعة آلاف سنة، من السقوط مجدداً في هاوية أظلم حقبة من تاريخها.
في سورية لم تنتظر قوى الردة الانتصار الأخير لقوى الشعب المنتفض، بل انقضت شراذمها على الحراك العفوي للجماهير، وهي لا تزال في طور التعبئة الأولية لقواعدها، والتلمس الضبابي لأنظمتها التنسيقية، وأفكارها الحركية، كانت عفوية الثورة تجعلها مفتوحة الحدود لكل من هب ودب، غير أن تلك العفوية هي التي أهلتّها لاستقطاب النوعية الجديدة لمادتها البشرية الملائمة لطبيعتها الفتية. كانت ثورة شبابية بكل معنى الكلمة تطالب على الأقل بحرية الاحتجاج، فالتظاهرة الشارعية هي وسيلتها الأولى وقد انتشرت كالنار في الهشيم؛ حتى أن جميع مدن سورية كانت آنذاك على استعداد لإنزال ملايين سكانها إلى ميادينها العامة، كانت سورية على وشك إطلاق أكبر ثورة شعبية وسلمية في تاريخها، وقد أدرك النظام منذ الوقائع الأولى أن الشارع السوري موشك على تحقيق هدفه، وقد بات صاحب النظام مضطراً إما إلى التسليم بالإصلاح الكامل أو السقوط، وما يعنيه ذلك الإصلاح الكامل هو إطلاق الديمقراطية الحقيقية التي ستنهي ديكتاتورية أسرية مذهبية عمرها أربعون عاماً.
في هذه اللحظة الحرجة والفاصلة، حدث ازدواج الثورة السلمية للجماهير العفوية بالمؤامرة الإرهابية المنظمة، فقد بدأ النظام بممارسة منهج القمع العنفي المتدرج من البنادق إلى الرشاشات إلى مدافع الهاون إلى المدافع الثقيلة، فالغارات الجوية وإطلاق الصواريخ بأنواعها، وأخيراً السلاح الكيماوي، لقد تم بذلك إخراج الثورة السلمية عن مختلف أطرها التنظيمية والأداتية للمرحلة العفوية السابقة، غرقت سورية في مستنقع كل الدمويات والانتكاسات الفئوية والجماعية، اختلطت معايير الثورة بنقائضها، غدت الثورة مهددة في هويتها، في ثقافتها، وأخيراً في سمعتها، باتت الحركيات الدينوية الملتصقة بجسدها التنظيمي تحوّل كيانها من بنية ثورة اجتماعية متمتعة بكل خصائصها الطليعية التاريخية لتطور شعبها، إلى حلقات من مقاتلين وأشباههم مغلقة على ذاتها، ومتنافسة فيما بينها.. وحتى متقاتلة أحياناً. هذا بالنسبة لأحوال الداخل، أما (المعارضة) في الخارج فقد عبثت بتنظيماتها وممارساتها انتماءاتُ أكثر رموزها إلى مرجعيات دول الاغتراب التي تعيش فيها أو ترتبط بأجهزتها.
رغم كل هذه الأمراض السلبية، فالثورة السورية باقية ومستمرة، قواعدها الجماهيرية هي أوسع بكثير من تنظيماتها، وهذه القواعد هي وطن الثورة ومعينها البشري الذي لا ينضب، وهي التي تستحق اسم الثورة قبل سواها؛ وقد تنحرف التنظيمات، وقد يتساقط بعضها على دروب الممارسة الشاقة، لكن بركان الثورة لن يهدأ في ضمير الأغلبية العظمى من مواطني هذا البلد العظيم الذي يحمل تراث بلاد الشام كلها على أكتافه، وهي اليوم تجتاز محنة الكيماوي، وتَلج، بل وتدفع دفعاً إلى دهاليز السياسة الدولية، تمهيداً لتحويلها إلى نوع من بضاعة للتداول بين بعض كبار العالم في سوق للمساومات المشبوهة المفتوحة أبوابها على مصراعيها هذه الأيام، وذلك بعد أن أنجز كبيرا العصر: (أوباما وبوتين) وضْعَ اللمسات الافتتاحية للمبادئ المؤسسة لشريعتهما المشتركة الجديدة حول إعادة تقاسم النفوذ العالمي، مجدداً وبدءاً من مركزية هذا النفوذ، كما هي قائمة ومتنامية في خارطة الشرق الأوسط، ذلك المصطلح الذي لم يعد أمريكياً، بل أمريكياً وروسياً معاً.
تلك هي العلة الفتاكة القديمة، والضاربة في محيط الثورة السورية، منذ انقلابها من السلمية إلى العسكرة، والتي راحت تتغلغل في عمق هيكلها التنظيمي، لكن هناك العلة الثانية وقد تصاحب الأولى وتصير أدهى وأشد، وهي المتمثلة في العديد من التصاقات الأجسام الغريبة ليس بأديمها السطحي فقط، ولكن المخترقة حتى عميق هيكلها التنظيمي، والمتدخلة في شؤون ممارستها الميدانية اليومية؛ فكيف إذن لهذه الثورة الاستثنائية أن تستردّ نبعها الأصلي من تحت هذا المستنقع من أمواج الاسلامويات الكاذبة، المزايدة على بعضها بالكم الأكثر والنوع الأظلم من طقوسيات الماضي السحيق، كيف لثورة الكرامة والحرية أن تكافح هذا الخطر الذاتي، ذلك سؤال تستجيب له حقبة مفتوحة منذ الأمس القريب، من معارك استيقاظ الثورة أخيراً على ضياع حريتها هي بالذات، وإن راحت تحاول استردادَها من خاطفيها أغراب الهوية والعصر، وذلك قبل أن تتمكن الثورة يوماً قريباً من استرداد الحرية لشعبها، فالحريتان متكاملتان، لكن حرية الثورة أولاً هو شرط مبدئي وعملي لحرية الشعب ودولته يوماً قريباً، إنه رهان لم يعد خيالياً ولا مستحيلاً كما تثبته وقائع الميادين السورية أخيراً.