الرئيسة \  واحة اللقاء  \  تداعيات دولة داعش على محاور اربعة

تداعيات دولة داعش على محاور اربعة

10.07.2014
د. سعيد الشهابي



القدس العربي
الاربعاء 9/7/2014
فجأة تغير المشهد، وقام المشاركون فيه بتغيير ادوارهم، بل تغير خطابهم كذلك. فالوضع لا يحتمل التأخير بعد ان اصبح الخطر يداهم الجميع. المشهد السياسي والامني بشمال شرقي الجزيرة العربية في الاسبوعين الماضيين يختلف عنه قبل ذلك، بعد ان اتضح ان "فرانكستاين" اصبح يلاحق صانعيه، حسب رواية الكاتبة البريطانية "ميري شالي" الخيالية. فلم يكن هدف السعودية او تركيا من ضخ اموال النفط او تسريب السلاح المتطور للمجموعات المسلحة اقامة "الدولة الاسلامية" لتتاخم الحدود الشمالية للجزيرة العربية والجنوبية لتركيا، مهد الدولة العثمانية.
الخطاب الذي كانت وسائل اعلام البلدين، ومعها الاعلام الغربي، كان مختلفا تمام، وما اكثر الاصوات التي ارتفعت مطالبة بالتدخل العسكري الامريكي ضد سوريا على غرار ما حدث في ليبيا واسقاط حكومة العراق. بل ان العلاقات بين السعودية وامريكا تعقدت كثيرا بعد قرار ادارة الرئيس اوباما في مثل هذه الايام من العام الماضي عدم التدخل العسكري ضد نظام بشار الاسد. مع ذلك توالت الدعوات لتسليح المعارضة السورية مع علم الجميع ان الفصائل الاقوى فيها تنتمي للتيارات المتطرفة.
من الذي كان يخطط لذلك؟ وما الجهة التي كانت تسعى لايصال الوضع الى ما هو عليه اليوم؟ وماذا يقول عقلاء الامة ومفكروها وعلماؤها، ان بقي منهم احد ملتزما بمبادئه وقيمه ومنطقه الراشد. ففي زمن الفتنة تغيب الحكمة وتهيمن العواطف وترتفع اصوات الطيش والانتقام والعصبية الجاهلية. أليس غريبا ان لا يتصدى لما حدث بمنطق الاسلام والشرع الا بعض منظري السلفية الجهادية مثل ابي محمد المقدسي، بينما ينساق علماء كبار وراء الدعوات التي لا يمكن ان تفيد الامة يوما؟ مخططو الفتنة كانوا واضحي الاهداف، وسيواصلون دق أسفين الفرقة بين المسلمين، ومن الضرورة هنا تلخيص المشهد السياسي الذي تمت الاشارة اليه في محاور اربعة منفصلة ولكنها ذات صلة ببعضها.
المحور الاول حالة الهلع التي هيمنت على الموقف السياسي بعد اعلان حركة داعش قيام "الدولة الاسلامية" في المناطق التي تهيمن عليها في العراق وسوريا. لم ينحصر الهلع بالعراق، بل تعداه للدول التي ستكون "دولة الخلافة" على حدودها.
ففجأة قامت السعودية باجراءات تؤكد ذلك الهلع. فأعلن الملك عبد الله اتخاذ "كافة الإجراءات اللازمة" لحماية المملكة مما قد ترتكبه المنظمات "الإرهابية"، وفي رسالة بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك ندد بما اسماه "تيارات وأحزاب غايتها زرع الفرقة بين المسلمين". وقال: "لن نسمح لشرذمة من الإرهابيين بأن يمسوا وطننا أو أحد أبنائه أو المقيمين الآمنين"، وأضاف: "نعلن أننا ماضون بعون الله تعالى في مواجهة ومحاربة كل أشكال هذه الآفة". وفي السياق، أشار إلى "بعض المخدوعين بدعوات زائفة ما أنزل الله بها من سلطان، فلم يفرقوا بين الإصلاح والإرهاب"، معتبراً أن "هدفها خلخلة المجتمعات بتيارات وأحزاب غايتها زرع الفرقة". واتخذت الرياض اجراءات تعكس حالة الاضطراب السياسي في المملكة، فأعفى الملك نائب وزير الدفاع من منصبه بعد أسبوعين على تعيينه. وتلى ذلك قرار السعودية ارسال 30 الفا من القوات الى الحدود مع العراق في خطوة استنفار غير مسبوقة. ولم يقتصر الاستنفار العام على السعودية، بل ان الاتحاد الاوروبي نفسه اتخذ اجراءات مشددة لمنع مواطنيه من التوجه الى سوريا للمشاركة في القتال. اما بريطانيا فتشعر اكثر من اي وقت مضى بالخطر المحدق باراضيها خصوصا بعد الاعلان عن قيام "الدولة الاسلامية".
وقبل اسبوعين منعت بريطانيا الشيخ السعودي محمد العريفي من دخول اراضيها. وقال متحد ث باسم وزارة الداخلية البريطانية في بيان عبر البريد الإلكتروني "يمكنننا تأكيد أن محمد العريفي منع من دخول المملكة المتحدة"، مضيفا "الحكومة لا ترفض دخول أناس إلى المملكة المتحدة إلا إذا اعتقدنا أنهم يمثلون تهديدا لمجتمعنا".. كما ندد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في بيان حمل توقيع رئيسه، الشيخ يوسف القرضاوي، بإعلان تنظيم "داعش" قيام خلافة إسلامية يقودها البغدادي، وقال البيان ان ذلك "إعلان باطل شرعاً، لا يترتب عليه أي آثار شرعية؛ بل يترتب عليه آثار خطيرة على أهل السنة في العراق والثورة في سوريا، بل يؤدي ذلك إلى توحيد قوى الأعداء بمختلف أصنافهم لضرب الثورتين."
اما المحور الثاني فيتمثل بما يبدو من خلاف في الموقف ازاء ما يجري في شمال العراق بين الولايات المتحدة وبريطانيا. فواشطن تبدو ا كثر حماسا لمواجهة داعش، بينما تمارس بريطانيا دورا مزدوجا بين الرغبة في حماية اراضيها من مخاطر الارهاب ودعم "الفوضى الخلاقة" في المنطقة ومن ذلك عدم التصدي لداعش. فما ان حدثت الازمة الاخيرة في شمال العراق حتى اعلن وزير الخارجية الامريكي عزمه على زيارة بغداد للتفاهم حول ما يمكن عمله لمواجهة تمدد السلفية الجهادية. وتمخض اللقاء عن دعم امريكي بارسال صواريخ من نوع "هيل فاير" للعراق. تبع ذلك مفاوضات في جنيف بين الامريكيين والايرانيين للتنسيق حول ما يمكن عمله لوقف انتشار "داعش".
الملاحظ ان وزير الخارجية البريطاني هرع لزيارة بغداد بدون اعلان مسبق، في اليوم التالي لزيارة كيري، وابدى موقفا مختلفا تماما عما ذكره وزير الدفاع البريطاني قبل يوم واحد فقط. ففي مقابلة مع قناة الجزيرة قبل اسبوعين قال فيليب هاموند ان بريطانيا لن تتصدى لداعش الا اذا اعتدت على دولة ثالثة (من مجلس التعاون الخليجي).
السياسة البريطانية تبدو مضطربة تماما وغير موجهة بشكل جاد لمواجهة الارهاب. واضطر ويليام هيغ لزيارة بغداد على وجه السرعة لمنع تداعي العلاقة مع امريكا التي شعرت ان ما حدث يمثل فشلا ذريعا للسياسات التي انتهجها الغربيون ازاء المنطقة. فهو، بدون شك، تأكيد لفشل مشروع الحرب ضد الارهاب. فبعد اثني عشر عاما توسعت دائرة الارهاب لتصل الى ادغال افريقيا وشمال شرق آسيا وعمق اوروبا.
المحور الثالث يتصل بغياب موقف الاعتدال الديني عن المنطقة، برغم وضوح مشاريع التقسيم المصاحبة لتوسع دائرة العنف والارهاب. المشكلة الخطيرة ان الكثير من افراد النخبة من علماء وكتاب واعلاميين انساقوا، خلال الازمة السورية، وراء مشاريع الطائفية والتطرف، واصبح من الصعب عليهم التراجع عنها. فغاب الصوت العاقل عن الساحة، وارتفعت اصوات الخلاف والاختلاف، وتم تجاهل ثوابت الامة كالوحدة والتفاهم وتحرير فلسطين. هذا الغياب يمثل ردة خطيرة اضعفت مشروع الاسلام السياسي بوجه خاص، فاصبح يهمش تدريجيا
الى الدرجة التي ضرب فيها حكم الاخوان المسلمين في مصر بقسوة ووحشية غير مسبوقة ولم يتحرك اغلب المحسوبين على الاخوان في البلدان العربية. كما تم تهميش حركة النهضة التونسية واخرجت من الحكم برغم فوزها بالاغلبية في الانتخابات البرلمانية.
وهكذا جنح قطاع كبير من "المعتدلين" لمسايرة التطرف واستدرج لخطابات
التشدد والطائفية، وبذلك ضعفت مجموعات الاعتدال الاسلامي كثيرا. وكشفت التجربة ضعف الانتماء لدى هذه النخبة التي لم تصمد امام التحديات التي ساهمت انظمة الاستبداد واعداء الامة في فرضها على المنطقة.
ويمثل المحور الرابع مفاجأة كبرى لمن يقرأ المشهد بهدوء، بعيدا عن العواطف والتعصب. فقد جاء الموقف الناقد لما حدث في شمال العراق بعد توسع حركة داعش، ليس من علماء الامة ومفكريها المحسوبين على "الاعتدال"، بل من داخل السلفية الجهادية نفسها، في الوقت الذي امتنعت النخب المحسوبة على الاسلام السياسي عن ابداء موقف واضح، وربما انساقت مع الحدث وتداعياته. هذه المرة تحدث اكبر منظري السلفية الجهادية بوضوح، بعد خروجه الشهر الماضي من السجن. ونقلت وكالة انباء رويترز الاسبوع الماضي عن أبي محمد
المقدسي، الذي وصفته المؤسسة البحثية التابعة لأكاديمية وست بوينت العسكرية
الأمريكية بأنه "المنظر الإسلامي الأكثر تأثيرا على قيد الحياة." قوله: "عيوننا لا تقر بسفك دم مسلم من أي طرف من الأطراف التي هي داخل دائرة الإسلام ولو كانوا من العصاة… فإما أن تصلحوا وتسددوا وتتوبوا وتؤوبوا وتكفوا عن دماء المسلمين وعن تشويه هذا الدين أو لنجردن لكم ألسنة كالسيوف الصقال تضرب ببراهينها أكباد المطي ويسير بمقالها الركبان". وفي تصريح شهير عام 2005 بعيد الإفراج عنه من حكم سابق بالسجن انتقد المقدسي الزرقاوي وندد بالتفجيرات الانتحارية التي ينفذها تنظيم القاعدة ضد المدنيين الشيعة في العراق.
هذه المحاور الاربعة هي الابرز في الوقت الحاضر، وتكشف مدى تداخل السياسات والمواقف بين الفرقاء بسبب ما يجري في سوريا والعراق.
 
٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن