الرئيسة \  واحة اللقاء  \  تداعي سياسة النأي بالنفس

تداعي سياسة النأي بالنفس

09.04.2013
عيسى الشعيبي

الغد الاردنية
الثلاثاء 9/4/2013
فيما اشتقت دول الجوار السوري تعبيرات لغوية مختلفة، لوصف سياساتها تجاه مجريات الأزمة القائمة في قلب المشرق العربي منذ نحو عامين؛ مثل عدم التدخل، أو الحياد واحترام السيادة والحدود، وغير ذلك، اشتق اللبنانيون تعبير "النأي بالنفس" الذي بات الشعار الأمثل لكل عاصمة تود أن تبقي على خطوط واهنة مع دمشق، وأن تبتعد عن شبهة دعم الثوار الذين صار لهم مؤخراً عنوان سياسي يحظى بالاعتراف على أوسع نطاق.
إذ فيما عدا تركيا، صاحبة الموقف المؤيد للثوار السوريين على رؤوس الأشهاد، فقد مارست سائر الدول المحيطة سياسة النأي بالنفس، بما في ذلك إسرائيل التي عززت من السياج الحدودي في الجولان؛ وكذلك العراق الذي اتبع سياسة أقرب إلى التقية، جوهرها الانحياز وغض البصر عن الإمدادات الإيرانية بالسلاح والرجال. وقد حاول ذلك اللاجئون الفلسطينيون بدون جدوى، بعد أن وجدوا أنفسهم وسط ساحة لتبادل إطلاق النار.
والحق أن شعار النأي بالنفس، الملائم تماماً لدولة مثل لبنان، لديها انقسام داخلي عميق بين القوى المحلية الوازنة حيال الموقف المتفاقم في سورية، لم ينجح (هذا الشعار) في إبعاد البلد الصغير عن الشرر المتطاير من لجّة الجحيم المشتعل قرب أذيال العباءة اللبنانية القابلة للاشتعال السريع. ومع ذلك، فقد ظلت الدولة الواقعة في قبضة دويلة قوية منخرطة على المكشوف في ذلك الصراع، متمسكة بسياسة الابتعاد عن اللهيب.
في غضون ذلك، كان الأردن هو البلد الأكثر حذراً، والأعلى حسّاً بجمرات المسؤولية تجاه مصالحه الوطنية، والأشد تماهياً مع اعتباراته الأخلاقية؛ عندما وقف في المنطقة الرمادية، وأمسك العصا من منتصفها، وراح يدعو إلى حل سياسي، بدون أن يغمض عيونه الواسعة عن عقابيل تفاقم الأزمة وارتداداتها المباشرة على مقدراته الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً أنه البلد العربي الوحيد الذي ليس لديه ضغوطات الانقسامات المذهبية الصارخة في العراق ولبنان.
وأحسب أن التجليات الأشد صعوبة لمبدأ الوقوف في منزلة وسطى محسوبة بدقة، بين الشعب الثائر والنظام، كانت هنا في الأردن، الذي لديه فوق مسؤولياته الوطنية التزامات دولية، وتحسبات فعلية لما قد تؤول إليه حالة الانهيار المفاجئ للسلطة المركزية في دمشق، وانفلات عقال المنظمات الجهادية، واستيلائها على مخازن الأسلحة الكيماوية؛ الأمر الذي جعل من سياسة الابتعاد والنأي سياسة غير قابلة للاستمرار بدون أي تقييم أو مراجعة تتواءم مع المتغيرات.
مع اشتداد حدة الصراع، وتفاقم الأزمة الدامية، واتساع نطاق تداعياتها، بدا الموقف الأردني شديد التطابق مع خط السير المتعرج لموقف دولي يقدم رِجلاً ويؤخر أخرى؛ يومئ لتحول ما على هذا النحو أو ذاك، يتردد ويعزم أمره ثم يؤجل، في انتظار الضوء الأخضر من السيد رئيس مجلس إدارة العالم المترقب من وراء المحيط، يعد العدة ويحسب الحسابات، ثم يعيد العد ويراجع قائمة البنود على جانبي ميزان الخسائر والأرباح.
وعليه، فإذا كانت سياسة النأي بالنفس صحيحة ومبررة في العام الأول للثورة السورية، فقد بدت هذه السياسة صعبة التطبيق وقليلة الفائدة في السنة الثانية. أما وقد دخلت الثورة سنتها الثالثة، فقد أصبحت سياسة "لم سمعت لم رأيت" غير صائبة، بل وغير مبررة، إن لم نقل عقيمة، لبلد يود أن يكون صاحب كلمة مسموعة عند الثوار المتطهرين من لوثة التطرف، وذلك بعد أن أوشك هؤلاء على امتلاك عصا السلطة، وباتوا قاب قوسين أو أدنى من قلب دمشق.
إزاء ذلك كله، فإنه يمكن القول إن سياسة النأي بالنفس قد تداعت بالفعل منذ نحو عام على الأقل، وأنها قد أصبحت في هذه الآونة تعبيراً عن حالة خداع سياسي للنفس، وذلك بعد كل هذا السيل المتدفق من الأحداث الميدانية، وكل هذا التبدل التدريجي في السياسات الإقليمية والدولية التي باتت مشغولة بمرحلة ما بعد الأسد، ومعنية باحتواء تداعيات سقوطه الوشيك، الأمر الذي يدفع بلداً تلقى الكثير من الأعباء والأخطار المتفاقمة والتبعات، إلى أن يلعب الدور المنوط بلاعب حصيف؛ يستشرف المستقبل، ويتحسب لكل الاحتمالات.