الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ترامب مغادراً بلا نهائيات في “الهلال الشيعي” 

ترامب مغادراً بلا نهائيات في “الهلال الشيعي” 

07.12.2020
رلى موفّق



القدس العربي 
الاحد 6/12/2020 
يتحضَّر الشرق الأوسط، من حيث المبدأ، لمغادرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومجيء خلفه جو بايدن. يطرح رحيل الأول ووصول الثاني أسئلة عن الأحوال التي ستكون عليها المنطقة في السنوات الأربع المقبلة. يُراهن بعض المراقبين على حصول تغيُّرات بعد خسارة الجمهوريين الذين في عهدهم، سلك سيِّد “البيت الأبيض” سياسة مناهضة لسلفه الديموقراطي باراك أوباما حيال إيران، الذي كان أَنجز معها اتفاقاً نووياً، وغضَّ الطرف عن تمدّد نفوذها وأذرعها العسكرية إلى كثير من الدول التي هي ساحات ساخنة ولا تزال. 
جاء ترامب والعراق غارق بالحرب على تنظيم “داعش”. كان “التحالف الدولي” في الحرب على التنظيم قد أُعلن في زمن أوباما في أيلول/سبتمبر 2014، وبدأ عملياته في كل من العراق وسوريا. عاد الأمريكيون بقوة إلى العراق وما زالوا. دخلوا إلى شمال سوريا وما زالوا. واصل ترامب الحرب التي أعلن لاحقاً الانتصار فيها. كان “الحشدُ الشعبي” بتفرعاته الثلاثة: التابعة لمرجعية النجف، ولرجل الدين مقتدى الصدر، وللميليشيات صاحبة الولاء العقائدي والسياسي والعسكري لإيران، جزءاً من المعركة على الأرض. ما كان يُمكن لحكّام العراق إعلان هزيمة التنظيم السنيّ المتشدّد والمصنّف إرهابياً من دون الأمريكيين والتدخّل الجوي للتحالف الدولي. كانت الحرب كارثية على المحافظات السنيّة الكبرى، حيث الملايين من أبنائها نزحوا وما زالوا يعيشون في المخيمات، فيما قُراهم مدمّرة وعلى حالها. 
لم يتغيّر كثيراً حال الحكومات. يأتي رئيس الوزراء نتاج تفاهمات وتسويات بين طهران وواشنطن. تارة تميل الدفّة للإيرانيين، كما كانت الحال مع نوري المالكي، وتارة تميل للأمريكيين كما صُنّف حيدر العبادي وخاب ظنهم فيه، وكما يُصنّف اليوم مصطفى الكاظمي، لكن تبقى الميليشيات الموالية لإيران، التي جرى تشريعها، على جهوزيتها وتضع يدها على الزناد وفق أجندة الحرس الثوري الإيراني الذي تلقّى على أرض العراق ضربة قوية باستهداف غارة جوية أمريكية قائد فليق القدس قاسم سليماني في محيط مطار بغداد ومعه أبو مهدي المهندس نائب هيئة الحشد الشعبي. اغتيال سليماني المسؤول عن إدارة العمليات الخارجية ترك تأثيره على الفصائل والميليشيات العراقية التي تُبارز بعضها بعضاً، ولكن في المحصلة يلتزمون جميعاً بكلمة إيران. 
بعد اغتيال سليماني، ردَّت طهران بقصف قاعدة عين الأسد بصواريخ أرض-أرض، وعلت أصوات جماعة إيران مطالبة بخروج القوات الأمريكية من العراق والمنطقة. تتوق طهران لانسحاب أمريكا عسكرياً، اقتناعاً منها بأنها الأقدر على ملء الفراغ الذي سيحدث أو الأكثر قدرة على التحكم والتأثير في غياب العم سام. بدأ استهداف السفارة الأمريكية في بغداد من أذرعها، فهددت الخارجية الأميركية أنها ستسحب دبلوماسييها من بغداد إلى أربيل، وستكون لذلك عواقب وخيمة. فالمسألة لدى ترامب ما كانت تحتمل أخطاء على أبواب الاستحقاق الرئاسي الذي كان يخوضه لولاية ثانية. توقفت الصواريخ، والتزم الجميع بالتهدئة قبيل الانتخابات. ستكون رسالة “حسن نية” إنْ عاد، وكانت الظنونُ أنه سيعود، وإنْ لم يعدْ، يكونون قد مرَّروا قطوع الانتخابات، فالرجل لا يمكن التنبؤ بما قد يفعله. 
هذا حصل في لبنان أيضاً. ما كان أحد ليظنَّ أن “حزب الله” يمكن أن يُعطي هدية ثمينة لإدارة تُمعن في محاصرته عبر فرض عقوبات عليه والتهديد بمعاقبة مَن يتعامل معه لبنانياً. بالطبع من الاستحالة بمكان أن تحصل مفاوضات على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل بين الحكومتين اللبنانية والإسرائيلية بوساطة أمريكية من دون موافقة “حزب الله”. فهو صاحب الكلمة الفصل في لبنان. لا مشكلة لديه بأن يترك غيره في الواجهة، وأن يُعطي الآخرين هامشاً للمناورة، لكن القرار النهائي يعود له. ملف الترسيم كان يتولاه مع الأمريكيين لأكثر من عشر سنوات رئيس السلطة التشريعية نبيه بري، ليس بصفته الرسمية، بل بصفته السياسية كشريك في “الثنائية الشيعية” المسيطرة ديموغرافياً وسياسياً وأمنياً وعسكرياً على الجنوب اللبناني، ذلك أنه لا يُفيدُ التفاهم مع الدولة اللبنانية ما دامت عاجزة وضعيفة وخاضعة لنفوذ “الثنائي” ولسلطة سلاح “الحزب” الذي تغلغل في البلاد بثوب “المقاومة”. فالدولة ليست سوى واجهة. 
بعد انفجارين غامضين في مرفأ بيروت وعين قانا الجنوبية، وكشف إسرائيل لخرائط مخازن أسلحة بين الأحياء السكنية، وبعد عقوبات الخزانة الأمريكية على المعاون السياسي لبري، وصلت الرسالة، فسلك التفاوض طريقه بسلاسة في تشرين الأول/أكتوبر قبل أسابيع من الانتخابات الأمريكية. هو إنجاز يُسجَّل في رصيد ترامب حققه على توقيته، لا على توقيت إيران وأذرعها. 
كان لبنان عشية الاستحقاق الرئاسي 2016 قد دخل تسوية سياسية آلت إلى الإتيان بحليف “حزب الله” إلى سدّة الرئاسة، وإلى إقرار قانون انتخابات أعطى “محور إيران” الأكثرية البرلمانية. أصبح “الحزب” يُمسك بالقرار السياسي بلباس دستوري مضافاً إلى فائض قوة السلاح وإلى السلاح الممسك بالقرار الاستراتيجي. سقط لبنان في حضن إيران، فكان الردُّ بحصار سياسي واقتصادي ومالي علّه يوقظ اللبنانيين من حالة تسليم واستسلام لا سابق لها شعباً وقياداتٍ سياسية. استخدمت واشنطن سلاح العقوبات إلى حدِّه الأقصى ولا تزال. سرَّعت الاهتراء وتجرَّأ الناس على المنظومة السياسية منذ ثورة 17 تشرين أول/ أكتوبر 2019، لكن تحالف السلاح والفساد لا يزال قوياً رغم ما أصابه من ضربات. 
فحتى الساعة لا يزال تحالف السلاح والفساد يُقاوم. والانصياع يعني التسليم بالهزيمة أو بجزء كبير من الخسارة. لا يقوى “حزب الله” على تحمّل فقدان أهمية الورقة اللبنانية، ما دام راعيه لم يجلس بعد على طاولة المفاوضات مع الأمريكيين. هو لبنان الذي وصلت عبره طهران إلى المتوسط، وإلى الحدود مع إسرائيل، حيث الرسائل تصل بسرعة وتُوجع وتُؤثر، وحيث يتحرَّك العالم برمته إن أصاب الدولة العبرية أي مكروه، صغيراً كان أو كبيراً. لبنان المحطة الأخيرة على درب “الهلال الشيعي” الذي حذَّر منه في يوم من الأيام العاهل الأردني، فهدف طهران تأمين خط “الهلال” من طهران إلى لبنان عبر العراق وسوريا، مهما كان الثمن ومهما تطلّب الأمر من تضحيات. 
معه تصبح سوريا، كعقدة قطع ووصل، هي المفصل. فرغم الكلام عن اتفاق توصَّل إليه سيد “البيت الأبيض” و”سيّد الكرملين” فلاديمير بوتين حول خروج إيران من سوريا، يبدو الأمر بعيد المنال. ما فعلته إدارة ترامب في الملف السوري أنها أغرقت روسيا فيه أكثر. موسكو عاجزة عن تسييل الانتصار العسكري الذي حققته. أمسك الرجل بقوة بورقة إعادة الإعمار الذي لن يتحقق قبل إنجاز الحل السياسي وفق “اتفاق جنيف” وقرار مجلس الأمن 2254. طوَّق النظام بالعقوبات التي تعزَّز مسارها مع إنجازٍ مهم أن أقرَّ الكونغرس في عهده، وبتوافق جمهوري-ديموقراطي، قانون قيصر. 
أعلن الانسحاب من شمال سوريا، وتراجع عنه جزئياً. غطّى التوغل التركي على حساب “قسد” الذراع الكردي العسكري لواشنطن والذي اعتمدت عليه في حربها ضد “داعش”. لا يزال ممسكاً بالحدود العراقية-السورية. أَمَّـنَ غطاءً للاتفاق حول جنوب سوريا الذي صاغته روسيا مع المعارضة السورية لمصلحة النظام وانسحاب الميليشيات الإيرانية من تلك المنطقة في ضمان لأمن إسرائيل. 
استطاع ترامب أن يُحاصرَ “محور إيران” وأن يعملَ على تقليص النفوذ الإيراني على درب “الهلال الشيعي” لكنه لم يصل إلى أي نهائيات في العراق وسوريا ولبنان، وقد لا يصل خلفه أيضاً. فصحيح أن احتمالات مغادرة الرجل لـ”البيت الأبيض” شبه محسومة، رغم النزاع القضائي حول النتائج، لكنه من غير المحسوم مدى قدرة خلفه على تجاوز ما خطّه من مسارات في المنطقة خلال ولايته أو الانقلاب عليها، ذلك أنه من الصعوبة بمكان إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.