الرئيسة \  واحة اللقاء  \  تركيا وروسيا: راية أطلسية حمراء

تركيا وروسيا: راية أطلسية حمراء

10.12.2015
أحمد جابر



الحياة
الاربعاء 9/12/2015
لأن الجغرافيا السورية صارت حصصاً، فإن المتدخل الروسي وجّه عنايته القتالية إلى البقعة التي يظنها حصته، أي إلى مناطق سيطرة النظام السوري، الذي كان محمياً سابقاً بحق النقض الروسي في مجلس الأمن، وبات محروساً بقوة نار الطرف الروسي ذاته في "محميته" الرسمية. في هذا السياق، يمكن فهم منطق الضربات الجوية التي استهدفت كل المعارضين الموجودين على تخوم منطقة "الحصة الروسية"، والتي نالت من أولئك الذين يمكن أن يشكلوا بتقربهم القتالي منها تهديداً مباشراً لها، ولذلك لم يأبه الروسي كثيراً لكل الأصوات التي نددت باستهدافه قوى المعارضة "المعتدلة"، ولم يستجب لكل الدعوات التي طالبته بتوجيه جهده الناري صوب القوة الإرهابية التي جعل ضربها ذريعة لدخوله إلى مسرح المواجهة.
بقي الطرف الروسي رؤوفاً بـ "داعش"، شديداً على سواها، وهذا مما اقتضته الخطة الأصلية، وأصلها بل جوهرها، الإمساك بمساحة سورية واسعة تمكن من يسيطر عليها من الجلوس براحة وثقة، إلى طاولة المتحاصصين.
الاشتباك التركي الروسي جاء في سياق التنازع التحاصصي إياه، فلقد بدا للطرف التركي أن الاندفاعة الروسية في الشمال السوري، من شأنها أن تنال من حصته، وأن التمدد المشترك للطرفين السوري والروسي، سيقلص مساحة نفوذ أنقرة، وسيجعل صوتها خفيضاً في مراحل لاحقة من المفاوضات على مآل الوضع السوري، وفي ما هو مرتقب من تفاهمات، عاجلة أو آجلة، حول التوازنات الدقيقة التي ستسيج هذه التفاهمات، والتي ستتكفل بحمايتها حتى أمد بعيد. اتصالاً بموضوع الحرص على عدم تهديد نفوذ اللاعبين الآخرين تهديداً جدياً، أظهرت موسكو تسرعاً عملانياً، أو لنقل أنه تكشف عن استخفاف بقدرات القوى المتدخلة الأخرى بعد أسابيع من بدء الضربات الجوية، وكان ذلك مخالفاً للبداية السياسية التي واكبت الغارات الأولى، تلك البداية التي حرص خلالها الرئيس الروسي على طمأنة تركيا والسعودية مثلاً، بكلام ديبلوماسي وباقتراح تعاون وتآزر في مجال التصدي للإرهاب.
لعل روسيا احتفظت بتوجسها في البداية، ولعلها التزمت جانب الحذر من مكيدة التورط في الرمال السورية، فكثفت اتصالاتها بجميع الفرقاء، وحددت لعمليتها العسكرية سقفاً زمنياً، وتمسكت بضرورة الحل السياسي في سورية، من خلال تسوية شاملة لا تستثني أياً من أطراف الصراع. هذه الرسائل المرنة كانت مظلة واقية للتدخل الروسي، وفي فيئها استمر في تحركه. إلى أن فاجأته شمس إسقاط مقاتلته من قبل القوات التركية.
لم تكن النيران تركية حصراً، بل هي كانت رسالة أطلسية أيضاً. كان على الطرف الروسي أن يقرأ سطوراً من الرسالة، منها: إن الدخول الفعال إلى الميدان السوري سيظل مقيداً بشروط من غض الطرف عنه، وإن تثميره في صيغة نفوذ لاحق لروسيا سيظل رهناً بإرادة الذين صاغوا الحدود المقبولة لهذا النفوذ، والذين يراقبون مدى الالتزام الروسي باحترام هذه الحدود. هذه المعادلة الدقيقة لا تحتمل تلاعباً بمكوناتها، وهي تكشف، من ضمن أمور عدة، أن مقولة الدولة العظمى لا تنطبق على روسيا الحالية، والأقرب إلى الوصف أنها دولة تمتلك قوة عسكرية فعالة، لكنها قوة لا ترسم مسار حركتها بذاتها، بل إن خطوط حركتها ما زالت ترسم بأقلام غيرها، وأن هناك من يوظفها عالمياً، فيفرد لها حيزاً ضمن خطته العالمية العامة.
لا يحتاج الأمر لتدقيق كثير، بل إن ما هو واضح للعيان أن جني استعمال فائض القوة الروسية في الميدان السوري، لن يكون ممكناً إلا إذا أبدى "المجتمع العالمي" الآخر استعداده لدفع "بدل أتعاب" للتوظيف الجديد، ودائماً بالعملة الدولية المتداولة، تلك التي ما زال لواء التفوق معقوداً لقدرتها "الشرائية" العالية، والتي ما زالت بمثابة الملاذ الآمن، سياسياً واقتصادياً وعلى كل صعيد.
بناء على ذلك، لن تستطيع روسيا أن ترد على رفع الشارة الحمراء في وجه مقاتلاتها بطريقة تتجاوز على ما لها من موقع على الخارطة الدولية، أي أن السياسة الروسية ستكون مضطرة لتعاود سيرة البداية التي حرصت على طمأنة الجميع، والطمأنينة ليست أقل من احترام مصالح الآخرين، وعدم تجاوزها. ومما يحتم ذلك على روسيا، خشيتها من أن تستفرد في الميدان السوري إذا ما أبدت تعنتاً، هذا التعنت له معنى واحد هو الإيغال في التدخل الميداني، وهذا إن حصل فإنه يعني زج القدرة الروسية في معركة مسدودة الآفاق ميدانياً، ومغلقة المنافذ سياسياً، هذا إذا ظل الحل في سورية معرفاً بصفته حلاً دولياً وإقليمياً شاملاً.
التعريف الشامل للحل، هو في الوقت ذاته الكابح الشامل للاندفاعة الروسية، ولأن الأمر كذلك، فإن تركيا ستظل محمية بـ "الشمولية الدولية"، وستظل متمتعة بحق رفع راية الأطلسي الحمراء، كلما ارتكب اللاعب الروسي خطأ، داخل الملعب وعلى حدود التماس. سيكون على الطرف الروسي أن يهدأ، وعليه ألا يطيل اللعب في المنطقة الخطرة... الخاسرة.