الرئيسة \  واحة اللقاء  \  تصحيح رواية الثورة السورية.. كلمة أمير قطر في الجمعية العامة مثالاً

تصحيح رواية الثورة السورية.. كلمة أمير قطر في الجمعية العامة مثالاً

29.09.2014
د. وائل مرزا



الشرق القطرية
الاحد 28-9-2014
ثمة لعبةٌ في عالم السياسة، الدولية تحديداً، يختلط فيها الإعلام بالدبلوماسية، ويمكن أن تؤثر سلباً أو إيجاباً بشكلٍ جذري في مصائر الشعوب والدول. تستغل اللعبة المذكورة وقائعَ معينة تجري على أرض الواقع، بل ربما يكون أطراف اللعبة ممن يخلق تلك الوقائع أصلاً، ثم يبنون عليها من خلال الخطاب الإعلامي والممارسات الدبلوماسية صورةً ذهنية مغايرةً تماماً للواقع، لكنها تُستخدم بمهارة للتنصل من التزاماتهم القانونية والأخلاقية أولاً، ثم إنها تساعدهم على تحقيق مصالحهم الخاصة في قضايا معينة، ولو جاء ذلك على حساب مصلحة الشعوب ذات العلاقة.
وعلى مدى ثلاث سنوات، كان الغرب الذي يدﱠعي صداقة الشعب السوري يمارس تلك اللعبة تدريجياً، وبشكلٍ دقيق ومدروس أوصلَها إلى الواقع الذي تعيشه اليوم.
من هنا، تأتي الأهمية البالغة لاستعادة الرواية الأصلية للثورة السورية، طرحاً لحقائقها المفصلية وشرحاً لملابساتها المتداخلة، بكل صراحةٍ ووضوح. وأن يحصل هذا على مسمعٍ من العالم بأسره، ومن خلال شخصيةٍ يسمعها هذا العالم.
هذا تحديداً ما يجعل كلمة أمير قطر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ أيام في غاية الأهمية بالنسبة للشعب السوري وقضيته. فالكلمة المذكورة جاءت مدروسةً بدقة لتعالج عملية خلط الأوراق التي كان النظام الدولي يمارسها، ولا يزال، فيما يتعلق بتلك القضية.
ثمة عباراتٌ مفتاحية في الكلمة المذكورة سنحاول الإشارة إليها لتوضيح الحقيقة المذكورة أعلاه. فبعد أن تُذكِّر الكلمة بمرور أربع سنوات كاملة على مأساة الشعب السوري، مع الإشارة إلى تفاصيلها، تنتهي الفقرة بتوضيح الفلسفة الأساسية للنظام من وراء ممارساته "بإراقة الدماء وعملية تدمير سوريا بشكلٍ منهجي" بعبارة لها دلالة تؤكدُ أن هذا يصدرُ: "من نظامٍ خيّر شعبه بين قبوله أو حرق بلده". فهذه حقيقةٌ يقفز عليها النظام الدولي وإعلامُهُ بشكلٍ كبير، رغم كونها ظاهرةً غير مسبوقةٍ، على الأقل في التاريخ المعاصر، وغير مقبولة بكل المعايير والمواثيق والمعاهدات الدولية.
ثم يأتي التذكير المطلوب بحقيقةٍ أخرى تم طمسُها تدريجياً واستبدالها بروايةٍ أخرى تحولت معها الثورة السورية، كما أراد نظام الأسد، حرباً أهلية في أحسن الأحوال، ثم مجرد حربٍ على الإرهاب. تناسى النظام الدولي حقائق أساسية في مسيرة الثورة، وجاءت الكلمة لتضع الأمور في نصابها بالشكل التالي: "وقد سبقَ أن حذّرنا أن مواصلة النظام الإرهاب وسياسة الإبادة والتهجير وعدم توفير الدعم للثورة السورية حين كانت ثورة مدنية تطالب بالحرية والكرامة، سوف تدفع الكثير من السوريين إلى الدفاع عن النفس. كما حذرنا المجتمع الدولي منذ البداية أنه إذا لم يفعل شيء تجاه ما يجري في سوريا فسوف نصل إلى ما وصلنا إليه. وحين دافع الشعب السوري عن نفسه بالسلاح طالبنا بدعمه قبل أن يُهدم النظام البلد وتنشأ المنظمات المتطرفة".
نعم، تؤكدُ الكلمة. كانت الثورة السورية ثورةً مدنية، وتُذكِّر كل أولئك الذين يخلطون الأوراق ويتجاهلون التاريخ باستخفاف أنها كانت تطالب بالحرية والكرامة التي يدﱠعي العالم (المتقدم) أنها من حق كل الشعوب، وأن النظام هو الذي بدأ سياسات الإرهاب والإبادة والتهجير، وأن عدم توفير الدعم لها هو الذي دفع السوريين لممارسة اسمُها الصريح والواضح هو "الدفاع عن النفس" قبل أي شيء آخر. وإسكاتاً لحجة من لا يزال يدعي إلى الآن بأنه لم يستقرأ الواقع والمستقبل، تُذكِّرُ الكلمة بأن التنبيه والإشارة لهذه الحقائق حصل منذ ذلك الزمن، تفنيداً للمزاعم ولعمليات تزوير التاريخ والتلاعب بالحقائق.
وفي إشارة إلى مهزلة (الخطوط الحمراء) التي وضعتها الإدارة الأمريكية، تأتي الكلمة واضحةً إلى درجة الصراحة فيما يتعلق بالموضوع، فهي لا تتحدث عن (تجاوز) تلك الخطوط والسكوت على ذلك، بل تضع الأمور في نصابها الصحيح وفق الأعراف السياسية الواقعية، لتؤكد أن ما جرى في حقيقة الأمر، وبغض النظر عن التصريحات الإعلامية، هو أنه "لم توضع أي خطوط حمر ليقف عندها النظام السوري، ولم يلتفت العالم حتى إلى قتل أطفال سورية ونسائها بالسلاح الكيماوي، وإلى قصف أحيائها المأهولة بالبراميل المتفجرة". بهذا، تتجاوز الكلمة بشفافية وصراحة كل الصخب والضجيج، وكل الحوارات الفارغة عن تلك المهزلة، وتسمي الأمور بأسمائها بشكلٍ واضحٍ ومُباشر.
وفي معرض تحميل "مجلس الأمن مسؤوليته القانونية والإنسانية على وجه السرعة" توضح الكلمة ضرورة دعم "الشعب السوري ضد الخطريْن المحدقين به، خطر إرهاب النظام وجرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها وخطر القوى الإرهابية التي استغلت حالة البؤس والمرارة وغياب الدولة وغياب المجتمع الدولي". لكنها تحرص جداً، وبدقة، على محاربة الخلط الذي يتجاهله النظام الدولي في مجال الحديث عن الأسباب والنتائج فيما يتعلق بالخطرين المذكورين، وذلك بعبارةٍ حاسمة تقول:"وقد أسهم الأولُ في توليد الثاني".
ومع أجواء الحرب على الإرهاب الدولي الحالية، تحرص الكلمة أيضاً على إيضاح رؤية شمولية للتعامل مع هذا الموضوع بشكلٍ عام، مع إشارةٍ دقيقة تتعلق بسوريا تؤكد أنه "ثبت بالدليل القاطع أنه لا يمكن مكافحة الإرهاب إلا من خلال بيئته الاجتماعية، وأنه لكي تقف المجتمعات معنا في مكافحة الإرهاب يجب أن ننصفها، وألا نخيرها بين الإرهاب والاستبداد"، مع التذكير والربط بحقيقةٍ يجري تغييبها والقفز عليها تقول: "لقد عانى الشعب السوري من الاستبداد والإرهاب، ولم يستمع المجتمع الدولي لصرخات استغاثته".
إن القضية السورية تمثل اليوم مثالاً نموذجياً على استخدام النظام العالمي للإعلام والدبلوماسية بهدف ترسيخ روايةٍ تخدم أهدافه فيما يتعلق بالثورة السورية وقضيتها، وهو يعتمد في هذا إلى درجةٍ كبيرة على التعريفات والتأويلات للأحداث والوقائع. ولكن، كما يقول الكاتب والشاعر وليد سيف: "التنازع على التعريفات والتأويلات لا يجري بصورة متكافئة. هنا تتدخل علاقات القوة بكل تجلياتها المادية والمعرفية والروحية والسياسية، ليتمكن الطرف الأقوى من فرض تعريفاته وتأويلاته وتوصيفاته على عقول الآخرين. وبذا يتمكن من السيطرة على العقول والأفئدة، وتشكيل نظرتها للعالم وإدارة سلوكها واستجاباتها بناءً على ذلك. هكذا يتشكل خطاب القوة Discourse ورواية القوي Narrative".
قد يتوجب على السوريين الانتباه إلى الأولوية الكبرى لتصحيح رواية الثورة السورية وليوظفوا في هذا المجال شيئاً من الجهود والأموال التي تضيع هدراً على قضايا هامشية أخرى.. وإلى أن يتحقق هذا الأمر، يبقى من أقل الواجب الإشارةُ إلى من يقوم بهذا الأمر، ولو بحدٍ أدنى من العرفان والامتنان.