الرئيسة \  واحة اللقاء  \  تقاسيم حلم سايكس بيكو المسروق

تقاسيم حلم سايكس بيكو المسروق

08.07.2015
فاطمة ياسين



العربي الجديد
الثلاثاء 7/7/2015
كتب الرحالة الفرنسي، لوران دارفيو، الذي زار دمشق في أواسط القرن السابع عشر: تقع بلدة جوبر على بعد نصف فرسخ من دمشق، ولا يسكنها إلا اليهود. أما كيف تحافظ جوبر القرن السابع عشر على نقائها اليهودي، فيجيب دارفيو: كان لهؤلاء اليهود الحيل الكافية لإيهام المسلمين المتطيّرين بأنهم سوف يموتون، إن هم حاولوا سُكنى هذه القرية. يتابع الرحالة حكاياته العقائدية: على بعد فرسخ من السهل المذكور بلدة صيدنايا التي تستقر على جبل دون المتوسط ارتفاعاً، وهي ليست مأهولة إلا بالنصارى، دونما أي اختلاط بمسلمي البلاد، وهم يوهمون هؤلاء بأنهم قد يموتون هناك في ختام السنة إن سكنوا البلدة.  كانت بعض القرى السورية الخائفة ترسم خطوطاً لا ترغب بأن يتم تجاوزها، فتلغِّم خطوط تماسها بالأساطير المخيفة، كي تبقي على نقائها الديني، لكنها، على الرغم من ذلك، كانت متعايشة مع وسطها الأكبر، ومنكمشة داخل حدودها الدينية المسوّرة بالحكايات. كان الخوف من الاندثار أو التلاشي دافعاً لها لترسم خطوطها المميّزة، أما دولة العثمانيين الكبرى التي هيمنت على كامل هذا القطاع، فقد رسمت خطوطها وفق عقلية جبائية، يستطيع فيها الوالي أن يجمع خَرَاج المدن والقرى الواقعة تحت سلطانه بسهولة، وبطريقة لا تستطيع فيها المنطقة أن تتحالف مع جوارها لتشكيل قوة تهدّد بها الباب العالي. ولم تكن السلطنة تتردّد في إلغاء خطوط الفصل بين الولايات لتشكل ولايات جديدة أو سناجق وأقضية منتزعة من ولايات، لتضم إلى ولايات أخرى. المهم أن يبقى الجميع تحت السيطرة، مُشَرَّعَ الظهر للسوط وجاهزاً للدفع.
ورث المنتصرون في الحرب العالمية الأولى هذا النظام، وجرت تعديلات كبيرة عليه، فاختفت أسماء الولايات، لتظهر مكانها أسماء الدول بفضل مهندسَيْ الجغرافيا السياسية الشهيرين، سايكس وبيكو، وكأنها عالما رياضيات تجريديان أطلقا على البلاد أسماء رمزية بدون أي محتوى وطني، أو عاطفي، فتحولت الولايات والسناجق والأقضية إلى مناطق يرمز لها بحروف أبجدية، أو ألوان طبيعية، وجرى توزيعها على منوال تقاسم الأسلاب، بعد عملية سرقة كبرى مخطط لها بعناية. ولكن خطوط سايكس بيكو لم تترجم حرفياً على الواقع، بل جرت زحزحتها يميناً وشمالاً، وتحت ضغوط كثيرة محلية وعالمية، بعضها ديني أو مذهبي، حتى استقرت على الشكل الحالي، وبقي من الكيانات الطائفية التي اقترحتها فرنسا، لبنان، الذي أريد له أن يكون جنة للمسيحيين ضمن طوفان المسلمين المحدق بهم. ولكن، مع تباشير القرن الواحد والعشرين، أصبح لبنان جنة لحزب الله، وبقي بلداً لطائفة بعينها، لكنها ليست المسيحية على كل حال.
كمنت عقلية استعمارية وراء شكل الخطوط المرسومة، تحرّكها دوافع اقتصادية وسياسية وخطط هيمنة طويلة المدى، وخلقت هذه العقلية توابع تمدّ الدول الاستعمارية بمواد خام، كما هو مشهور في كتب المرحلة الإعدادية.
لا يستحق كل من سايكس وبيكو شهرتهما، فالخريطة التي أنتجها لقاؤهما لم تجد لها في الواقع واقعاً. ولئن استُعيض عنها بكياناتٍ لا تختلف كثيراً عمّا فكّر فيه السياسيان، إلا أنهما بقيا رمزاً للتقسيم الافتراضي، حيث دخل اسماهما في التداول بقوة، حتى بعد أن تجاوز الخراب السوري سنته الرابعة، واختمرت عقلية تقسيمية جديدة، أنتجتها قذائف الهاون والبراميل المتفجرة مع الاستعصاء الدولي، وبدأت أفكار رسم الخطوط تبرز بقوة متعمّدة، فالمنطقة التي دعاها سايكس وبيكو منطقة (أ) إضافة إلى جزء من المنطقة الزرقاء، اللتين شكلتا سورية، أصبحتا مرشحتين من جديد للتعديل.
الخطوط الجديدة لا تستند على الخوف من الاختلاط الديني، ولا على منطق الجباية العثماني، ولا تعتمد على عقلية الهيمنة الاقتصادية، بل ترتكز على منطق عسكري يستمد كل ما يلزمه من خارج الحدود. وبذلك، الخريطة السورية مرشحة لرسم خطين، أفقي وشاقولي، يقسمانها كما تقسم الدائرة المثلثية إلى أربعة أرباع: للكرد، ولداعش، وللنظام، ولجبهة النصرة، أما نحن، الآخرون، فـ(ما لنا غيرك يا الله).