الرئيسة \  مشاركات  \  تقاليدنا الشعبية في ميزان السنّة والبدعة

تقاليدنا الشعبية في ميزان السنّة والبدعة

01.08.2013
د. محمد عياش الكبيسي




تتخذ التقاليد الشعبية نمطا مطردا ومتكررا حتى تكون جزءا من هوية المجتمع الثابتة والتي يصعب تغييرها أو التنازل عنها، بل إن السلوك الإنساني عبر التاريخ يسجل أن تنازل الإنسان عن مصالحه الشخصية مهما بلغت أهون عليه من أن يبدو مفرطا في هوية المجتمع الذي ينتمي إليه، وهذه الظاهرة هي التي كانت العقبة الأعتى بوجه الأنبياء وهم يحاولون الإصلاح والتغيير نحو الأفضل، فقد تكررت في أغلب المجتمعات مقولة (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)، ولذلك فإن الداعية الذي يتعرض لعادات المجتمع وتقاليده عليه أن يكون أكثر حكمة وفطنة من معالجاته لبعض الأخطاء أو المنكرات الفردية.
إننا اليوم لا نواجه مجتمعات وثنية كما كان الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- بل نحن نعيش في مجتمعات إسلامية، وهذا الفارق ينبغي أن يلاحظ في فقه التأسّي والاقتداء، ومن المؤسف حقا أن نجد بعض الدعاة خاصة الشباب يحاول أن يستنسخ مقولات الأنبياء في التمايز العقدي والولاء والبراء وكأنه يعيش في تلك المجتمعات الوثنية أو الجاهلية، حتى ظهرت مقولات (التكفير والهجرة) و(المظلة الإسلامية والمظلة الجاهلية) وهذه كلها تعبّر عن حالة من القلق والعلاقات غير الطبيعية بين الجماعات الإسلامية وبين مجتمعاتها ومحيطها الأوسع.
إننا حينما نتكلم عن مليار ونصف من المسلمين لا يمكن أن نحكم عليهم من خلال صورة محددة انطبعت في أذهاننا من خلال قراءاتنا المجتزأة عن الإسلام وصورة المجتمع المثالي في المدينة أو الحجاز أو حتى الجزيرة العربية.
إن الإسلام لا يمكن أن يكون رحمة للعالمين كل العالمين إلا وفيه من المرونة ما تجعله يتسع بالفعل لكل شعوب الأرض واحتياجاتهم المادية والمعنوية والنفسية، وطرائقهم في التعبير عن أنفسهم وانطباعاتهم وعلاقاتهم.
إن الحرص على تنقية المجتمع من الظواهر السلبية ينبغي أن يقابله حرص على تنقية الخطاب الديني من ردود الفعل النفسية، فالذي يحرّم على الناس ما لم يحرّمه الله عليهم لا يختلف عن الذي يبتدع في الدين، فكلاهما يعطي لنفسه صلاحية التشريع بلا دليل وإن اختلفت الدوافع، وهذه المعادلة تتطلب الوقوف على جملة من الضوابط، منها:
أولا: التفريق بين الحرام القطعي المتفق على حرمته وبين الحرام الذي هو محل اجتهاد واختلاف بين الفقهاء المعتبرين في الأمة كالمذاهب الأربعة، فالأول داخل في مساحة (المنكر) الذي يجب العمل على إزالته وكل بحسب استطاعته، بينما الثاني يدخل في دائرة (العلم) والبحث والحوار، وهذا هو شأن أئمة السلف وفقهاء الأمة مهما كانت المسألة محل النزاع، ومن يقرأ كتب التفسير بالمأثور كالطبري وابن كثير أو كتب الفقه المقارن يجد هذا واضحا وجليا.
ثانيا: الحذر من استخدام مصطلح (البدعة) في غير مورده المحدد شرعا وهو (العبادة المخترعة التي ليس عليها دليل ثابت)، وهي منتشرة اليوم في بعض الطوائف المنتسبة للإسلام كالطواف بالقبور والنذر للمقبورين والسجود على التربة الحسينية ومواكب العزاء السنوية وتعذيب الأجساد بالتطبير واللطم وسفك الدم، واختراع أعياد دينية غير الفطر والأضحى، ودعاء الله بغير أسمائه الواردة مثل (يا هو)، إن كل هذه البدع تشكل خرقا للدين وتمييعا لثوابته وتفريقا للأمة ولذلك فهي (ضلالة) وهي (في النار) لأنها كذب صريح على الله وعلى رسول الله، ولكن هل مصطلح البدعة هذا يتناول كل أمر مستحدث أو مبتكر؟ لننظر في الصور الآتية:
الأولى: الابتكارات في مجالات الحياة العامة كالصناعة والزراعة والتجارة والطب والفلك والهندسة ووسائل الاتصال والتلقي والتعليم... إلخ، فهذه كلها لا تدخل في مسمّى البدعة، ولذلك شاع عند العلماء (الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم) في مقابل (الأصل في العبادات الحرمة ما لم يرد دليل المشروعية)، وهما قاعدتان صحيحتان، والمقصود هنا بالعبادة الأعمال التي شرعت من أجل التقرب إلى الله بذاتها كالصلاة والحج بخلاف الأعمال الأخرى التي قد تتحول إلى عبادة باستحداث النية الصالحة كمن يأكل ويشرب بنية التقوى على طاعة الله.
الثانية: اقتران المبتكرات الحديثة بالأعمال التعبدية لا يخرجها عن أصل الإباحة، فالصلاة أمر تعبدي لكن استعمال مكبرات الصوت أو الراديو أو التلفزيون في نقل هذه العبادة أمر مشروع ولا يحتاج إلى دليل خاص، وقد تعارف الناس على استخدام هذه العلوم المتطورة في بناء المساجد وطباعة المصاحف وأداء المناسك، ومثل هذا وضع الخطوط المستقيمة في فرش المساجد لضبط الصفوف، فهذه الوسائل هي ضمن دائرة المباح العامة وإن اقترنت بالعبادات، بل إن القرآن أمر برباط الخيل في الجهاد، لكن المجاهدين اليوم يعدّون المعدّات الحديثة بدل رباط الخيل، وذكر القرآن (كل ضامر) لأداء الحج، والحجاج اليوم يأتون بالطائرات والسيارات وليس على الضوامر.
الثالثة: طرائق الناس في التعبير عن مشاعرهم حبا وكرها وفرحا وحزنا، وما يتعلق بهذا من إدارة المناسبات الاجتماعية المختلفة، والالتزام ببعض العادات والتقاليد في استقبال الضيوف وإكرامهم، ويلحق بهذا اللغات والأزياء والفنون المختلفة، فالأصل في كل هذا الإباحة، ومن يرى هيئة العلماء اليوم من حيث المظهر والملبس حتى في بلاد الحرمين الشريفين لا يستطيع أن يقول إنها نفس هيئة علماء السلف، فهذه من المتغيرات المقبولة على اختلاف الزمان والمكان والحال.
الرابعة: اقتران هذه الطرائق بالأمور التعبدية لا يخرجها عن قاعدتها، فالعيد أمر تعبدي وتوقيفي، لكن طرائق الناس المختلفة في التعبير عن فرحتهم بالعيد أو رمضان أو لقدوم الحاج وما إلى ذلك فكل هذا مشروع بأصله، ولعب الحبشة أمام رسول الله يوم العيد ليس دليلا على جواز هذه الكيفية من اللعب فقط بل هو دليل على مشروعية أصل اللعب، ثم لكل مجتمع أن يمارسه بالطريقة التي يراها ما لم تصطدم بنص محرم.
الخامسة: التفريق بين العبادات المطلقة والعبادات المقيدة، فالصلوات الخمس وألفاظ الأذان والطواف بالبيت والوقوف على عرفات في يوم معيّن ووقت معين... إلخ فهذه كلها ثوابت لا يجوز تغييرها بزيادة أو نقصان ولا بتقديم أو تأخير، أما العبادات المطلقة مثل قراءة القرآن والذكر والدعاء فهذه تتسع لأن يختار المسلم الصيغة والكيفية والوقت الذي يناسبه بحسب نمط حياته ووظيفته فله أن يدعو الله ويذكره في الوقت الذي يشاء وبالطريقة التي يشاء ما لم يصدم بنص محرم.
السادسة: حينما يدور خلاف بين العلماء المعتبرين في وصف عمل ما بأنه بدعة أو ليس ببدعة، فهذا أمر متوقع لأن هذا الوصف لم يرد بالنص بل هو تطبيق لقواعد الشرع على سلوك الناس، وهذا التطبيق فيه جانب بشري يعتمد على تقدير الحالة ومدى خضوعها للنص أو القاعدة الشرعية وليست كل الحالات متشابهة في قربها أو بعدها عن النص، وإذا كان الخلاف في تسمية (الحرام) واردا بكثرة في تراثنا الفقهي سلفا وخلفا فإن الخلاف في تسمية (البدعة) وتطبيقاتها من باب أولى.
إن كل مسألة فيها قدر من اللبس ينبغي أن تحال إلى دائرة البحث العلمي والاجتهاد وتخرج من دائرة الصراع والولاء والبراء، وفي هذه المرحلة بالذات علينا أن نعيش في مجتمعاتنا بأفراحهم وأتراحهم وتطلعاتهم ومشاعرهم، ولا نتمايز عنهم بالمبررات الدينية أو الإصلاحية، ولا نجاهر بالمخالفة إلا في دائرة الحرام القطعي والبدعة المنكرة التي لا تحتمل اجتهادا، وفوق هذا ميدان التنافس في الخيرات وليس ميدان التعالي أو التنابز بالألقاب (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون).