الرئيسة \  واحة اللقاء  \  تفكير بصوت عالٍ في تقرير "نيويوركر"

تفكير بصوت عالٍ في تقرير "نيويوركر"

18.04.2016
بيسان الشيخ


الحياة
الاحد 17-4-2016
لم يكشف تحقيق مجلة "نيويوركر" ما لا نعرفه ويعرفه مجتمع الثورة السورية عن نظام بشار الأسد منذ انطلاق الشرارة الأولى في درعا في 2011 حتى يومنا هذا. التعذيب في أقبية المخابرات، التصفيات المباشرة بإشراف طبي وتكديس الجثث في حمامات المستشفى العسكري، المحاكمات الصورية، وغيرها الكثير من الفظاعات التي لشدة ما رويت وصورت، بات متلقّيها يشيح وجهه ويصم أذنيه عنها.
ويحق لكثير من الناشطين السوريين التململ والامتعاض من ضجة أثارها تقرير يكرر وفقهم ما سبق أن كشفوه بأنفسهم وصوروه وكتبوا عنه، من دون أن يعيرهم العالم الاهتمام الكافي أو يتخذ أي إجراء فعلي بحق نظام الأسد.
لكن الواقع أن أهمية التقرير تكمن في مكان آخر، ليس الكشف الإعلامي بحد ذاته (أو ما تم التعارف على تسميته "فضح النظام") جزءاً منها. لا بل كان المحققون الذين جمعوا المعلومات والأدلة واضحين تماماً بأنهم "فضلوا مقابلة ضحايا بقوا في داخل سورية ممن لم يتحدثوا أبداً الى الصحافة ولا منظمات حقوق الإنسان ولا حتى لجان التقصي التابعة للأمم المتحدة"، ليقابلوا أقوالهم بما لديهم من معطيات. بل ذهب أحد المحامين المشاركين في المهمة الى اقتراح عدم مقابلة ضحايا في مخيمات اللاجئين أصلاً، لما لظروف اللجوء والهجرة القسرية من آثار سلبية على دقة الشهادات.
إذاً، فإن الأهمية الأولى لعمل تلك اللجان التي يكشفها التقرير، هي في تحديد الفارق الكبير بين معرفة الشيء وشيوع تلك المعرفة كرواية تنقل على شاكلة "من- الى" من جهة، وبين القدرة على الإثبات وتحويل المعلومة الى دليل قاطع يدين صاحبه في محكمة دولية من جهة أخرى.
إنها حرب وثائق خاضها النظام والمعارضة على السواء، من دون سابق معرفة أو تخطيط، لكنها تجاوزت في عنفها كل ما تناقلته شبكات التواصل الاجتماعي، وعدسات الناشطين، وفيديوات "يوتيوب" من بوح وتشظ عاطفي. ذاك أننا، مرة أخرى، أمام "العنف النظيف" الذي يصدم من دون أن يسيل قطرة دم... كصورة طفل نائم على شاطئ البحر.
هكذا، تتحول قصة تعذيب وتصفية الطفل حمزة الخطيب على سبيل المثل، والذي بات أيقونة الثورة السورية، وساهم الى حد بعيد في إشعالها، عملاً تقنياً دقيقاً وبارداً، يرصد كيفية تقطيع أطرافه وعضوه التناسلي وربط كل من تلك الأجزاء برقم يعود الى جسده الصغير ليكتمل الـ "بازل" الذي وضعه جلادوه. هنا يأتي أهم ما وثقه التقرير وأثبته، وهو آلية اتخاذ القرارات والإيعاز بتنفيذ تلك الفظاعات وآلية جعلها عملاً ممنهجاً و "ممأسساً"، حيث لم تشكل شهادات الضحايا إلا مثالاً حياً على ما كُتب في وثائق النظام نفسه.
واللافت أنه لم يخطر ببال أي من أجهزة النظام أن تشكل تلك الوثائق دليلاً ضدها، حتى ليتساءل المرء ما الهدف من هذا التوثيق كله والتصوير والترقيم، طالما أنها لن تمنح أهل الضحايا جثث أعزائهم ولا حتى شهادات وفاة تزيح عنهم كاهل الانتظار والترقب؟ لعله مجرد دليل على إنجاز المهمة، معد للتداول الداخلي؟ لكن ما هي حلقة الثقة هذه التي تمتد من أفرع الأمن الى الشرطة والمحاكم والمشافي وتشمل قطاعات مهنية متنوعة وتتيح إبقاء أفعال كهذه سرية؟
اللافت أيضاً أن مقاتلي المعارضة من جهتهم لم يلتفتوا الى أهمية الوثائق التي وقعت بين أيديهم، لدى سقوط مراكز أمنية وعسكرية تحت سيطرتهم، خصوصاً في الشمال السوري، بل تركز اهتمامهم على انتزاع الأسلحة والمعدات العسكرية. ويستشهد التقرير بأحد المحققين فيقول أن الشباب انشغلوا بالتصوير السريع وتحميل فيديوات على "يوتيوب" لإثبات نصرهم واستعراض غنائمهم المباشرة، وغالباً ما أحرقوا المقرات بما فيها من وثائق وأدلة لعدم معرفتهم بقيمتها وكيفية الاستفادة منها لاحقاً.
وفي المقابل، فإن القلة القليلة من الجنود المجهولين الذين عرفوا أهمية ما ملكت أيديهم، وعملوا في الخفاء على جمع تلك الوثائق وتهريبها من داخل سورية، لم يخاطروا بحياتهم فحسب، وبعضهم قضى وهو يقوم بمهمته، بل تعرضوا أيضاً لشبهات تطال سمعتهم وتشوهها من داخل مجتمع الثورة نفسه. فالمحامون الذين عملوا منذ بداية الثورة على توثيق الانتهاكات ورفع التقارير للمنظمات الحقوقية اتهموا (وما زالوا) بالعمل لجهات خارجية، والناشطون الإعلاميون الذين راحوا يقابلون الضحايا اعتبروا "متلصصين على خصوصيات المجتمع ومبالغين في طرح أسئلة شخصية لا شأن لهم فيها". وأسوأ من ذلك، كثر من حاول المتاجرة بهم وتسويق عملهم تحت شارات (لوغو) منظمات إعلامية تهدف الى تحقيق أرباح مادية لا غير، مستفيدين من سوء ظروف الحياة في المهاجر القسرية.
ولعله من الصدف المضحكة المبكية أن يكون أحد الشهود الذين اعتمد على وثائقهم تقرير الـ "نيويوركر"، هو الشاب عبدالمجيد بركات الذي عمل في خلية الأزمة وسرب تقاريرها الموقعة من رئاسة الجمهورية، وقد تحدث الى "الحياة" فور انشقاقه في 2012. لكنه إذ أخبر قصته بكل عفوية آنذاك، وبدا حائراً بما يفعله بكل تلك الأوراق والى من يسلمها، أثار مزيداً من الشكوك واعتبر "مزروعاً من النظام في أوساط المعارضين"، ليأتي اليوم ويظهر أنه لا يقل أهمية عن "سيزار" وغيره ممن خاضوا حرب الوثائق تلك بسلاح نظيف لا يترك بقعة دم. لكن، من كان ليصدق شاباً متحمساً آنذاك؟
أسئلة كثيرة تجول في البال لدى قراءة التقرير:
المتعلق منها بالمهنة يعيدنا الى الدوامة نفسها من الشعور بالعجز، وبأن لا قيمة لأي عمل صحافي لا يتسم بذلك الجانب التقني البارد، القادر على جمع قطع "البازل" وفق أرقامها، وتحويلها جثة طفل تحدق في وجه جلادها وتحاسبه وتقيله من منصبه.
والمتعلق منها بالسياسة (او بعضها) يتوجه الى هؤلاء المتكاثرين من حولنا، والمدافعين عن ضرورة الإبقاء على "مؤسسات الدولة" في سورية ومنها الجيش مثلاً، في حال الإطاحة ببشار.
أما الأكثر إيلاماً وصعوبة (ربما) فتلك الأسئلة المرتبطة بإعادة بناء الثقة بين من سيكملون الطريق عندما يهدأ صوت الرصاص.