الرئيسة \  واحة اللقاء  \  فتوى "جواز" التعاون مع تركيا للقضاء على "داعش"!

فتوى "جواز" التعاون مع تركيا للقضاء على "داعش"!

10.08.2015
د. وائل مرزا



الشرق القطرية
الاحد 9/8/2015
من الواضح، مرةً أخرى، أن ثمة فكراً خطيراً يُحاصرُ الإسلام بشكلٍ سرطاني، وهو قبل ذلك وبعدهُ يُحاصرُ العربَ والمسلمين بدرجةٍ غير مسبوقة.
نعرف مثلاً أن مئات الملايين من المسلمين في العالم، وفي طليعتهم أبناء المنطقة العربية، يُجمعون على ضرورة القضاء على تنظيم (داعش)، وينظرون إلى الأمر على أنه من الأولويات والبدهيات التي لا نقاش فيها.
ونعرف أنهم وصلوا إلى تلك النتيجة بناءً على حسابات فِطرية للمصالح العامة، ديناً وعقلاً واجتماعاً بشرياً.
نعرفُ أيضاً أن آلاف التحليلات والدراسات والمقالات والآراء في دنيا العرب، حتى بين أطراف تختلف في حُكمها تجاه قضايا أخرى، تتفقُ على الخطر الإستراتيجي الوجودي الذي تُشكله (داعش) على شعوب المنطقة ودولها وثقافتها وهويتها وتاريخها.
لكن هذا كلهُ لا يبدو كافياً في نظر ذلك الفكر وأصحابه، لا يأبه هؤلاء بكل المعطيات المذكورة أعلاه، ولا يقيمون لها أي وزن. أما البديل الوحيد والأوحد لديهم، فيتمثل في كلمة واحدة: (فتوى) تتعلق بهذا الموضوع.
لهذا تحديداً، تُصبح (الفتوى)، التي أصدرها المجلس الإسلامي السوري منذ أيام بعنوان (فتوى حول حكم التنسيق مع الحكومة التركية للقضاء على داعش)، ظاهرة تستحق التحليل من عدة وجوه.
من الواضح، بدايةً، أن المجلس وصلَ إلى النتيجة المذكورة أعلاه، وأنه أصدر الفتوى من واقع معايشته لملابسات الموضوع على الصعيدين النظري والعملي.
وفي اعتقادنا أن السؤال المذكور في مطلع الوثيقة، والذي جاءت الفتوى كإجابةٍ مباشرة له، مجردُ نموذج على أسئلة ووقائع وأحداث عايشها المجلس خلال الأسابيع القليلة الماضية بعد بدء الحملة العسكرية التركية على (داعش).
هذا في حد ذاته مدعاة للتقدير، لأن المجلس يحاول أن يتعامل هنا أيضاً، كما هو حالُ جهات أخرى، مع (إكراهات) الواقع بِلُغة هذا الواقع ومفرداته التي يفهمها.. ويحاول أن يستخدم أدواته لتحقيق المصلحة العامة. ويمكن القول، من باب الواقعية: إن صدور مثل هذه الفتوى في مثل هذا الوقت ضروري للتعامل مع ظاهرة (داعش) وصولاً إلى النتيجة المطلوبة التي تتلخص في آخر عنوانها: (القضاء عليها).
لكن هذا لا يتضارب مع طرح جملة ملاحظات نقدية يقتضيها المقام.
فنحن نعود، مع هذه الفتوى، إلى تلك الإشكاليات التي تحملُها هذه الآلية حين تُستخدم بطريقتها التقليدية المُعتمدة، منذ مئات السنين، وبشكلٍ يختلطُ فيه تحقيقُ المصلحة المذكورة أعلاه بترسيخ ما نراه (مفاسد) تؤثر سلباً، ليس فقط في حياتنا الثقافية وطرق تفكيرنا وحياتنا، بل وفي فهم المسلمين لإسلامهم.
تتجلى في هذه الفتوى صدقية التحليل الذي طرحناه وقت إنشاء المجلس، وذكرنا فيه أن "المسألة الحساسة التي يجب الانتباه إليها هنا تتمثل في ذلك الارتباط الدقيق الذي أصبح سائداً بين الفتوى الشرعية وبين القرارات السياسية والاقتصادية والإدارية. فرغم أن المُعلن أو المُتعارف عليه أن المجلس سيختصﱡ بإصدار فتاوى شرعية، غير أن القاصي والداني يدركان أن تلك الفتاوى الشرعية تتعلق في حقيقتها، وبشكلٍ كبير، بالمسائل الكبرى السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تشغل الواقع السوري المعاصر.
والمشكلة هنا أن إصدار تلك الفتاوى، وهي تمثل في حقيقتها مواقفَ سياسية وأحكاماً اقتصادية وتوجهات ثقافية، يتطلب وجود دراسات وتحليلات في غاية العمق والتنوع والشمول من جهة الاختصاص".
يبدو هذا واضحاً حين نجدُ كيف اضطرت الفتوى، في غياب الاختصاصات المذكورة أعلاه، وغياب أدواتها ومفاهيمها، إلى ترسيخ مشكلةٍ أخرى في طريقة (استنباط) الرأي الإسلامي، للوصول إلى هدفها بما نرى أنه نوعٌ من (اللف والدوران).
إذ لا يبدو ممكناً للفتوى المذكورة، كما هو شائعٌ في الفكر السائد، أن تستمد قوتها الحقيقية من قدرة أهل العلم المعاصرين على استقراء (النص) الإسلامي، وإنما تستمد الجزءَ الأكبر من القوة و(المصداقية) من (أقوال) السابقين و(استنباطاتهم) و(قراءتهم) الخاصة التاريخية للنص.
وإذ نجدُ في فتوى مهمة كهذه الفتوى، بأسرها، آية قرآنية واحدة، ونجدُ معها بضعة أحاديث، نرى بالمقابل فقرات مطولة من مقولات وآراء ابن القيم وابن تيمية وابن حزم والسرخسي، هي التي تحسمُ الأمر في نهاية المطاف حسبَ منطوق الفتوى.
هل توقفت قدرةُ الإنسان الحقيقية على التلقي من (النص)، بشكلٍ يستخرج مكنوناته المعاصرة ويُعالج مقتضيات الواقع المعين للإنسان، عند مسلمين عاشوا منذ مئات السنين؟ هل هذا حقاً قَدَرُ الإنسانية النهائي مع النص الإسلامي الذي يكرر المسلمون الحديث عن صلاحيته لكل زمان ومكان؟
تبدو الأسئلة صعبةً ومُحرجة، لأن الفتوى تحمل في طياتها إشكاليات أخرى.
فمن ناحية، تُحاول الفتوى الخروج من مأزق (الحَرفية) الذي يستخدمه مَن أفتوا بحرمة التعامل مع الحكومة التركية على أساس أنه "من التولي لأعداء الله الذي يصل حد الكفر"، فكيف تفعل ذلك؟ بشكلٍ مأساويٍ جامعٍ لمعاني هذا الوصف.
فهي حين تحاول الدفاع عن الحكومة التركية في العبارة التالية: "من الجهل والظلم الحكم على هذه الحكومة بالكفر والردة"، تلجأ فوراً إلى تشبيهها بالنجاشي، مع استفاضةٍ ملحوظةٍ في الحديث عنه.
لكن الطامة الكبرى تظهرُ تدريجياً في الفقرات التالية. فَتَحتَ ضغط (الحَرفية) المذكورة أعلاه، وفيما نرى أنه محاولةٌ (داخلية) للانسجام مع ثقافة (الحَرفية) نفسها، ومع طريقة التفكير المُستحكِمة، تنتقل الفتوى لمعالجة: "فرض توقع مفسدة من التدخل التركي"، فيكون ذلك بأن تقول إنه "لن يصل إلى درجة المفسدة التي ترتبت على أقوال وأفعال داعش"..
أكثرَ من هذا، نرى تصاعد الخوف من مخالفة (الحَرفية) في الفهم حين تصل الفتوى إلى أن تقول: "ثم على فرض القول بالمنع والتحريم لهذا التعاون، فإنه يكون جائزاً ومباحاً، بل قد يصل إلى الوجوب، لأن الشعب السوري في أعلى درجات الضرورة".. ولا تتردد في تبرير هذا بمقولة: "التفريق بين الاستعانة والتولي لأعداء الله، فإن مسألة الاستعانة دائرة بين الجائز والمحظور غير المُكفِر".. مستدلةً على ذلك بقول السرخسي: "ولا بأس بأن يستعين أهل العدل بقومٍ من أهل البغي وأهل الذمة على الخوارج"..
هكذا، تتجنب الفتوى قراءة (الواقعة) المعاصرة الحساسة بمنهجيةٍ تستلهم مقاصد النص الإسلامي الأصيل، يقوم بها علماء عاملون، وبرؤيةٍ شموليةٍ تُساهم في رسمها، إلى جانب العلم الشرعي، تخصصاتٌ مختلفة في العلوم الاجتماعية. وبالتالي، تجدُ نفسها مُحاصرةً بالقراءة الحَرفية، التي لا يمكن إطلاقاً للفقه التقليدي تجاهلُها، بل كثيراً ما يأخذُها بعين القبول والاعتبار، فلا يكونُ الحلﱡ، عندها، إلا بالعودة إلى بضاعة التاريخ وأهله.
صحيحٌ أن الفتوى تصل إلى مطلوبها، في نهاية المطاف، عبر ذلك الطريق (الملتوي والمتعرج). لكنها لا تنتبه، بالتأكيد، إلى نَقلِها التدريجي للطرف التركي من حالٍ إلى حال، وصولاً إلى أن يُقاسَ، دون قصد، "بقومٍ من أهل البغي وأهل الذمة" تجوزُ الاستعانة بهم على الخوارج "داعش".