الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ثقافة الخذلان: لماذا يلتحق ثوار سوريون بـ"داعش"؟!

ثقافة الخذلان: لماذا يلتحق ثوار سوريون بـ"داعش"؟!

30.08.2014
كريم عبد



النهار
28-8-2014
مـجتمعات كثيرة تـمر بـحالات من الخذلان الحضاري، وهذا بذاته لا ينطوي على مأزق أبدي ما دام الأمر متـعلقاً بظروف تاريخية مفروضة ونتائج مؤقتة يمكن تجاوزها، لكنَّ الأمرَ يُصبح مأزقاً عندما يتحول الخذلان ذاته إلى ثقافة، ثقافة تجد من يدافع عنها ويبـررها، بل ويبتكر لها نظريات على غرار نظرية المستبد العادل كما كان الأمر أيام الديكتاتورية، أو تبرير النفوذ الإقليمي والدولي الذي تكرّس بعد إنهيار مؤسسات الدولة العراقية في أعقاب الاحتلال الأمريكي 2003!
وإذا كانت تناقضات الواقع العراقي واضحة ولا يمكن تغطيتها، فإن سقوط الديكتاتورية وانهيار الدولة أدى إلى ظهور هذه التناقضات دفعة واحدة وبطريقة لم تستطع الأحزاب النافذة استيعابها والتعامل معها بطريقة تجعل تلك التناقضات والمستجدات تحت السيطرة. إن استمرار الاستبداد لأكثر من أربعين سنة، بما انطوت عليه من حروب وقمع منظم جعل (مديرية الأمن العامة) ترفع شعار: (إذا لم نجعل من كل مواطن شرطياً، سنحتاج إلى شرطي على رأس كل مواطن)! إذ أصبح إقلاق المواطن من دون سبب وارعابه أو ابتزازه مالياً خصوصاً خلال سنوات الحصار الاقتصادي، من الممارسات اليومية للبعثيين وشرطة الأمن!
لقد أصبحت الدولة وأجهزتها معملاً لإنتاج الخذلان وتعميمه على الجميع، وهذا الخذلان المترسّخ ضمناً في نفوس البعثيين هو الذي دفعهم للترحيب بإرهابيي القاعدة والإستعانة بالدول المتضررة من التغيير بالعراق، وخصوصاً النظام السوري! الأمر الذي حوّل البلاد إلى ساحة مفتوحة للإرهاب والدمار بشكل متواصل. لقد أدى شيوع الرعب والخراب إلى ردود فعل اجتماعية تتراوح بين السلبية المطلقة التي وصلت لحد الهروب الجماعي من العراق تخلصاً من الموت المجاني، وبين العسكرة المضادة متمثلةً بالميليشيات ما جعل السيطرة على الوضع العام من قبل أجهزة الدولة الوليدة أمراً صعباً.
وكنتيجة فإن سياق الرعب والخذلان هذا، أدى إلى صعوبة إنتاج ظواهر سياسية أو ثقافية بديلة، فقد استمرت الريبة والتصادم بين الأطراف المتصارعة، ما أدى إلى تكريس ثقافة الخذلان عند الأطراف المتصارعة التي وجدت نفسها في خضم لعبة سياسية أكبر منها مجتمعة، ما عمّقَ اليأس والخذلان في وعيها ومواقفها. أما على الصعيد الاجتماعي فكان الشعور بالخذلان أكثر قسوة، خصوصاً مع تكريس مبدأ المحاصصة الذي عوّق المشروع الديمقراطي وعطله، فعمم الحرمان وأحلَّ الفساد محل السياسة!
وبينما تستمر الأطراف السياسية في تناقضاتها، أصبح للخذلان سلطة تنتقل بالعدوى إلى مشاعر الناس فتربك وعيهم وتـهيمن على طريقة حياتهم، فتتدخل لغة الخذلان في جوهر الأشياء والعواطف وردود الأفعال وتفاصيلها، ما جعل المجتمع أشبه بجزر معزولة، فهناك المستفيدين من كل هذه المعاناة، وهناك أثرياء الفساد الذين تحولوا إلى ظاهرة خطيرة، وهناك من يبحث عن لقمة العيش دون جدوى، وهناك من هو مذهول من كل ما حدث ويحدث دون أن يحرك ساكناً، ولكن أيضاً هناك حراك سياسي يتمثل بالرافضين لكل هذا الظلم والجور رغم قلتهم وتقطّع حركتهم.
لكن ثقافة الخذلان ما زالت تفعل فعلها معوّقة حركة التاريخ ولهفة المجتمع للتغيير، ومع استمرار الصعوبات نجد أن هناك من أصبح يفتش عن (منقذ) أو ما يسميه البعض بـ (الشخصية الجامعة) متغافلين بأننا نعيش في عصر دولة المؤسسات وليس عصر الأبطال والأسطوريين. فالشخصية الجامعة من هذا النوع لا يمكن أن توجد، لأنها شخصية غير واقعية، فلا يمكن توحيد مجتمع يعاني الانقسام والطائفية وراء شخصية واحدة، أو قائد أوحد، بل يمكن توحيده على مبادىء وطنية عامة يُفعّلها النظام الديمقراطي ودولة المؤسسات، لكن أولئك الذين ينتظرون (المنقذ) إنما يحنون للديكتاتور مؤكدين تراكم الخذلان في دواخلهم، إنهم يفعلون ذلك بمشاعر لا يدركونها ربما.
ليست نظرية الـمستبد العادل جديدة، بل هي قديمة قدم الخذلان ذاته، والغريب هو إن مثل هذه النظريات تجد من يُصدّقها رغم ما تنطوي عليه من تناقض في اللغة والمنطق، حيث لا يمكن أن يُجسد الـمرء الشيء ونقيضه في الوقت نفسه (الاستبداد والعدالة)! إنما هي ثقافة الخذلان تتحرك داخل النفوس لتبرير الخضوع والمهانة للمستبدين.
وكل هذا يمكن أن يكون مفهوماً عندما تتخذ الأمور وجهة معينة، لكن ما هو غير مفهوم هو أن نعيش في عصر إنكشفت فيه جميع الأباطيل واصبحت الأشياء تسمى باسمائها سلباً أو إيجاباً، رغم ذلك نرى من لا يزال يجد متعة في الخضوع لمنطق الإرهاب رغم عدميته، أو لأحزاب وحركات تريد إحلال السلاح محل الحوار الديمقراطي دون التفكير بالعواقب الكارثية التي يمكن أن تحل بالبلد جراء تكرس ظاهرة الميليشيات (التي تموّلها وتحرّكها إيران) في ظل ضعف الدولة أو تغاضيها!
إن الخذلان المتراكم خلق لنا أشخاصاً وجماعات وأحياناً حركات سياسية تحيا على مفاهيم ونظريات تتناقض مع تعاليم الأديان السماوية ومع كافة الفلسفات الحقوقية والأخلاقية بسبب فسادها وعدميتها، حيث لم يعد ثمة فرق بين شجاعة العقل وبين اضطراب المشاعر المخذولة، ما جعل المجتمع في حالة نكوص وتراجع، وجراء ذلك شاعت ظواهر كثيرة في غاية العدمية والاضطراب.
وإذا كانت مأساة الموصل 9-6-2014 تدل على تسرب ثقافة الخذلان إلى ثكنات الجيش ونفوس بعض القادة، فإن فضيحة مجزرة (قاعدة سبايكر) التي ذهب ضحيتها أكثر من 1500 مواطن، تدل على تعفّن أجهزة المالكي وتحول الخيانة والغدر إلى طبيعة مترسخة داخلها إذ أصبحت تُنكل بالشيعة والسنة معاً وبأشكال شتى ما يدل على هيمنة الخذلان عليها وتحوله إلى مرض خطير.
أما في سوريا فإن انتقال مئات المقاتلين من صفوف الثورة إلى تنظيم داعش الإرهابي، ما هو إلا تعبير عن تحول الخذلان إلى عدمية سياسية قاتلة! إلى اضطراب يجعل المرء لا يفرق بين الأسود والأبيض! وإلا كيف يمكن أن ينتقل هؤلاء الثوار إلى صفوف داعش! وفي لحظة أجمع فيها العالم على ضرورة تصفية هذا التنظيم الهمجي! إن هذا التحول يلحق أكبر الضرر بسمعة الثورة السورية وكفاحها العادل من أجل الحرية والكرامة بينما يعطي المزيد من الأوراق لسلطة بشار الأسد بعد أن سقطت سياسياً وأخلاقياً بنظر المجتمع الدولي!
إن الإنسان أو المجتمع المخذول إذا طال خذلانه ولم يجد أملاً في الخلاص، فإنه ينقلب ضد نفسه وضد الآخرين، أي يُصبح عدمياً. إن منشأ وآلية وتأثير ثقافة الخذلان على الشعوب المظلومة، يحتاج لدراسات عميقة ومتعددة، وربما يتوجب علينا نحن العراقيين والسوريين دفع أثمانٍ أضافية جراء الغياب الطويل للعدالة وتغييب المعرفة العلمية والبرامج التربوية التي من شأنها جعل الإنسان والمجتمع قادراً على التمييز بين الحكمة السياسية وبين ثقافة الخذلان.