الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ثورة الشام وُلدت قبل الصفقة الدولية.. وسوف تبقى بعدها

ثورة الشام وُلدت قبل الصفقة الدولية.. وسوف تبقى بعدها

22.10.2013
مطاع صفدي


القدس العربي
الاثنين 21/10/2013
الفراغ السياسي الذي كان العرب يشكو من سيطرته على علاقات كياناتهم الحاكمة فيما بينهم، لم يأت ‘الربيع بثوراته واضطراباته كي يملأه، بل ربما زاد في مؤثراته، نقله من حال الركود إلى أحوال من الأفعال الملتبسة أو العشوائية، فلا يمكن الركون إلى الحكم السريع القائل أن هذا الربيع صار هو الربّان المتميز لسفينة الأحداث الكبيرة والفاصلة في هذا المستنقع العربي الذي لا تزال ديدانه المترسِّبة في قيعانه الموحلة قادرة على إجهاض تياراته المتبقية من حمولتها من المياه العذبة الصافية.
مع ذلك يثبت الربيع أنه سيبقى هو الحدث الأعظم الذي يتهدد الفراغ السياسي ليلغي أسبابه قبل أن تكبّل نتائجُها المدمرة أعناقَ الأجيال الجديدة الصاعدة، وتحولهم إلى سلالة أخرى من أسياد التخلف المتجدد أو من عبيده. ما نريد الإشارة إليه هنا هو أن الربيع أتاح للنهضة الولوج إلى حراك دورة أخرى، من تاريخها المفعم بالوثبات الوجودية والردات العدمية خلفها. غير أنه لن يكون سهلاً على النهضة أن تتماهى كلياً مع حقبة الربيع، أن تسلّمها كاملَ عُدّتها الفكرية، ومعها خلاصات تجاربها. بل لن تجازف النهضة في اعتبار الربيع أنه سوف يشكل منعطفاً في مسيرتها، أو أنه سينحت له حقبة قائمة بذاتها في سياق زمانها وعصرها، ومع ذلك لن يكون الربيع غريباً أو متطفلاً على ثقافة النهضة، قد يكون طامحاً إلى أن يتبوأ ما يُصطلح عليه أنه هو عصر التغيير الكلي الذي طالما حلم به رواد النهضة ومفكروها، لكنهم عجزوا عن تحقيقه وإن أوغلوا في التبشير به، بأسمائه ومفاهيمه، وأحياناً تداعوا إلى مشاركات في إنتاج مقدماته الثقافية أو قوانينه الحقوقية، لكن هاهو الربيع يتجاوز كل عتبات الدعوات والتبشيرات والتصورات، ويضع مجتمعات الأمة دفعة واحدة في حمأة الثورات وفوضاها العارمة، وتناقضاتها المفجعة. لعلّ الربيع بات متعجلاً في أمره اليومي، يصدره في صباحات المدن الغافية، لتملأ شوارعها وميادينها جحافلُ الصخب والغضب.. الجماهيرية.
بيد أنه لا يمكن اختصارُ الربيع بالثورات التي تفجرت تحت شعاراته، كما لا يمكن لهذه الثورات أن تُختزل بأحداثها الدموية، قد تحاول حركات العنف هذه أن تعبّر عن بعض مفاعيله الواقعة، سواء بموافقته على فحواها ونتائجها، أو برفضه لها جزئياً أو كلياً، لكن الربيع يظل متهماً على الأقل بأبوته المعنوية لهذا المايحدث المجهول الناهض باسمه والمنتشر تحت أعلامه.
إذا كان الربيع هو أب للثورات، غير أنه ليس مطلوباً منه أن يتنبأ بأفعال أبنائه مقدماً، يمكنه أن يعلن براءته من بعضها عندما ينحرف هذا البعضُ عنه نحو كل ما يتناقض مع مبادئه الأخلاقية، أو أهدافه السياسية، يمكنه أن يعلن بالفم الملآن أمام شعبه أن أبناءه الحقيقيين بل الشرعيين قد تواروا أو اخْتُطِفوا أو فقدوا وجودَهم، وأن هؤلاء الحركيين في الساحات ليسوا هم الثوار، إلا الأقل الهامشي منهم، وأن جلّهم ربما كانوا من منسلبي الوعي والإرادة، وأن شذاذ الآفاق وحدهم، ممن يسمون بالقادة و(الأمراء) هم المتاجرون بهم. فهذا هو زمن التزوير الأفظع عندما تصل فواجع الأمور إلى حد إخفاء أصول الأشياء والمفاهيم، إلى حد نسيان هذه الأصول، في سياق التعامل الحصري مع أشباحها الفارغة من المعنى والمبنى؛ فما يحدث للثورات العربية هذه الأيام أن أهدافها الأساسية تكاد تضيع في زحمة من صراع المبادئ مع المصالح الفئوية التي تشغل الثوار فيما بينهم بأتفه الأطروحات، بينما تغيب هموم المتغيرات الاجتماعية المأمولة عن ساحات معظم الجبهات المفتوحة، حتى يبدو أن الصراعات الفرعية هي التي تكون لها الغلبة في المحصلات النهائية.
الربيع العربي ليس باعثاً على الفوضى، لكن الفوضى تلاحق ممارساتِه أينما حلّ، وكيفما تصرّف. إنها توأمه الثاني الشيطاني؛ فهي العدو الأول لكل ثورة، وخطرها الأفعل أنها نابعة من جسم الثورة عينه، فما أن تتراكم أخطاء الثورة حتى تنفجر في وجهها مختلفُ نقائضها، لذلك نبّه مفكرو الثورات منذ القديم إلى ضرورة أن يزدوج نضال الثورة ضد أعدائها المكشوفين تحت حواسها، بصنف آخر من أعدائها الباطنيين. فهؤلاء هم العناصر الأشد مكراً ودهاء، اكتشافهُم وفضْحُهم، ومن ثَمَّ تنظيمُ طرق كفاحهم، هي مهماتٌ معقدة وشاقة، ولن تكون الثورات العفوية، طرية العود، متهيأة أو معدة للتصدي المباشر لها.
تبرز الثورة السورية كأنها المثال النموذجي لهذا الصنف من ثورات الربيع الغارقة في مآزقها الذاتية، فهي منذ أن وُلدت من انتفاضة بضعة فتيان إلى أن قفزت بها تطوراتها الشعبية المتصاعدة لتجعلها تضم ألوية وجيوشاً، وتدخل حروباً حقيقية، وتفتح جبهات نارية في أنحاء الجغرافية الوظيفية، هذه الثورة منذ أيامها الأولى كان عليها أن تصارع صنوف الفوضى النابعة من تشكيلاتها الصدفوية عينها. كان الناس يتدافعون إلى صفوف الثوار من كل حدب وصوب، لم يكن الفتية الأوائل، رواد الثورة، يمتلكون أية هياكل أو أُطُرٍ تنظيمية قادرة على استيعاب الجحافل البشرية القادمة إلى الميادين، والمتلهفة لإسقاط (النظام) بين يوم وليلة، لم تكن لدى هذه الطلائع المندفعة أية أفكار شمولية تحكم رؤوسهم، كان الفرح بملاقاة الحرية وحده سيّد المواقف والمشاعر، فالثوار أصبحوا هم الرجال الأحرار اليومَ حتى قبل أن تتحقق الحرية بتدمير مركّب الاستبداد/الفساد، المُخْتَطِف للوطن منذ نصف قرن.
هذا الميلاد الشعبي والعفوي بمعنى الكلمة مثلما كان يشكل امتياز الثورة الربيعية فعلاً، إلا أنه جعلها مفتوحة الحدود، أي قابلة للدخول عليها من مختلف الطارئين والطفيليين وأصحاب الأيديولوجيات المغلقة داخل رؤوس أصحابها، كانت ثورة بلا حدود، بلا أفكار وعقائد مسبقة، لذلك كان الأمر سهلاً على الدول والتنظيمات الجاهزة أن تغزو جسد الثورة، أن تختطف حصصاً لها من خلاياه وأعضائه وأجهزته، أن تمزقه إرباً حتى يكاد الثوار الحقيقيون المتبقون يصبحون طريدين أو مطرودين، غرباء عن المخططات والممارسات التي تتخاطف كلية الفعل الثوري في مختلف الاتجاهات المتضاربة؛ لم يعودوا هم الفاعلين المسؤولين عملياً، وإن اتُهموا بانحرافاتها الظاهرة زوراً أو بهتاناً. هكذا باتت الثورة أحياناً نائية عن أبنائها وأرضها، وتغدو محشورة في ملفات دولية، تفكر عنها، وتقرر بغير ألسنتها، وتصوغ نصوصها بغير أقلامها، وتختمها بغير توقيعاتها، ومع ذلك تطرح (هذه الملفات) نفسها للتداول، كبدائل فاقدة لأصولها دائماً.
ما يحدث لثورة سورية هذه الأيام هو أن وقائع تزويرها فكراً وعملاً في الداخل بات مسوّغاً كلَّ عمليات تزويرها في الخارج الإقليمي والدولي معاً. هذه المحصلة البائسة لكل تضحياتها، شعبها معها، طيلةَ ما يقرب من ثلاث سنوات، هل سوف تكون أعطالُها كافيةً لوضع حد نهائي لوجودها، هل سوف تأتي عليها بنهايتها، خاصة وأن صفقة الصديقين اللدودين (أوباما و بوتين) لم تكن لتتم نتائجها الباهرة عالمياً(؟) حتى الآن لو لم يكن كامناً في جوهر الصفقة هذا الاتفاق الضمني بين العملاقين حول الإجهاز على الثورة السورية كلياً.
هنا، وفي هذه اللحظة المفصلية في تاريخ المشرق العربي تحديداً لعلنا لا نخسر ثقافة التفاؤل، إن قلنا أن هذه الثورة مثلما لم تكن صنيعة أحدَ حين اندلاعها، كذلك لن تكون في استطاعة أحد أن يقرر عنها متى تقفل ساحاتها، وهي لن تفعلها أبداً قبل أن تغرس أعلامها في قمة (قاسيون) دمشق. ولأن هذه الثورة كانت صنيعة نفسها، فهي إبنةٌ شرعية وأصيلة للربيع العربي، إنها أحد أدلته التاريخية الحاسمة على سلامة توقيته التاريخي، بالرغم من كل الندوب العميقة التي لا تزال تنزف من حسدها الطاهر. أعطالها وأخطاؤها كثيرة، لكن تحت قشرة هذه النوافل ثمة جوهرٌ ما، ترك شعاعاً من كنزه الضوئي في قلب كل عربي؛ لن يخبو هذا الجوهر أبداً، حتى عندما تغلق الميادين، فالثورة لها موطنها الدائم في ضمائر مواطني هذه الأمة جميعاً.. والربيع صار واحداً من الفصول الأربعة في سنوات الزمن العربي.
 
‘ مفكر عربي مقيم في باريس