الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ثورة سورية والتنازع وذهاب الريح

ثورة سورية والتنازع وذهاب الريح

28.02.2018
محمد السعيدي


الوطن السعودية
الثلاثاء 27/2/2018
ارتباط قرارات الفصائل التكفيرية دون استثناء بجهات لا تريد للشعب السوري ولا لثورته خيراً ومنها النظام نفسه؛ سوف ينكشف أمرها بشكل أكثر جلاء
قبيل منتصف الليل من السبت الماضي صوَّت مجلس الأمن على قرار هدنة لمدة ثلاثين يوماً في جميع أنحاء سورية، وذلك عقب العدوان المجرم على قرى الغوطة وبلداتها من جهة قوات الأسد مدعومة بالقرار والجيش الروسيين؛ وبالرغم من أن قرار الهدنة أقل من الحدث بكثير، وأن صدوره تم بعد عدد من التأجيلات بسبب تهديد روسيا بالفيتو، إلا أن الرد الفوري من النظام جاء على شكل غارات جوية استهدفت بلدات الغوطة ذهب ضحيتها أطفال وشيوخ. العجيب في عالم اليوم الذي تَغَنَّى أكثر من أي عصر مضى في التاريخ بالإنسان وحقوقه: أنه لا يتألم من أجل الإنسان إلا في الوقت الذي يشاء أن يتألم فيه، وليس في الوقت الذي يحدث فيه ما يوجب الألم؛ وإلا فإن الغوطة لم تكن أول مكان خلال سبع السنوات الماضية يتعرض لحملات القصف والعدوان من جانب النظام السوري والجيش الروسي الغازي والميليشيات الإيرانية المجرمة، وليست مأساة مدينة القصير التي دمرها حزب الشيطان اللبناني الخاضع لإيران بعيدة عن الأذهان، والتي لم يحرك لأجلها مجلس الأمن أصبعاً ؛ فضلاً عما حصل من الجرائم البشعة في حلب وحمص وحماة وإدلب وتدمر ودرعا وهلم جرا.
فالعالم يتألم متى شاء وبالطريقة التي يريد؛ وإلا فإن الغوطة نفسها ليست هذه أول مرة تشهد فيها المآسي العظام من عدوان النظام وحليفيه، الميليشيات الإيرانية والغزاة الروس؛ فإن أول استخدام للمواد الكيميائية المحظورة دولياً كان على مدن وقرى الغوطة عام 1434 بشكل مكثف وغير طبيعي؛ ولم يتألم العالم آنذاك بالرغم من تهديد أوباما ذلك التاريخ بأن الرد الأميركي سيكون غير متوقع لو استخدم الأسد السلاح الكيميائي؛ وفعل الأسد ذلك، فماذا فعل أوباما؟ ! أجاب بعض المعلقين حينها بأن أوباما كان صادقاً، لأن الصمت التام وترك الحبل على الغارب لإيران في سورية هو الرد الذي لم يكن متوقعا من الولايات المتحدة.
هذا التواني من العالم وعدم الصدق والجدية في الالتفات للقضية السورية هما ما جعلا السعودية تحتج عليه في شكل اعتذارها عن عضوية مجلس الأمن سنة 1434.
المهم أن العالم في النهاية وبعد خمس سنوات من استخدام الكيماوي في الغوطة تألم وأنتجت آلامه هدنة غالباً ما سيكون المستفيد منها هو النظام الأسدي ومن حوله، لأن فترة الثلاثين يوما ستكون فرصة للأهالي ليتجهوا لمزيد من الهجرة التي لا زالت منذ سبع سنوات، بالرغم مما فيها من آلام، هي أفضل طريق للنجاة، خاصة وأن قرار الهدنة لا يحدثنا عما سيكون بعدها؛ فعودة القصف والقتل هي الظرف المتوقع بعد الثلاثين يوماً، إن لم تفشل الأطراف في تنفيذها، لذلك فالهجرة مع الأسف لا زالت الخيار الآمن للمواطن السوري حتى اليوم؛ وأي شيء تريده إيران ويريده الكيان الصهيوني أفضل من إفراغ الشام من أهلها، ومن ثَم إحلال شيعة الأفغان والإيرانيين محلهم؛ في أقذر عملية توطين تأتي بعد توطين اليهود مكان اللاجئين الفلسطينيين بعد عام 1368.
لقد ظلت سورية أكثر من عام من بداية ثورتها تعيش أحلام النصر على هذا النظام الطائفي؛ وكانت جميع المؤشرات تتجه نحو ذلك؛ فالثوار وإن لم يكونوا متحدين فليسوا بعيدين عن بعضهم بسبب اتفاقهم على أن الهدف الرئيس من الثورة: إزالة النظام، وإقامة حكومة عادلة دون الدخول في جدال حول تفاصيلها ومنطلقاتها الفكرية، وكان كل فصيل يحتفظ لنفسه برؤيته لما بعد الثورة، أو يناقشها مع قواعده ونظرائه دون أن يجعلها أولوية تستحق النزاع.
وبهذه الروح استطاعوا تحرير ما يمكن أن يُقَدَّر بثلثي مساحة سورية. إلا أن انفلات الدعم المالي وعدمَ تقنينه، وخلوَّه من جهة إشرافية ذاتِ خبرةٍ، مكَّنَت كثيراً من الداعمين من تأسيس فصائل تتوافق مع اتجاهاتهم الفكرية المتصارعة الأمر الذي أثَّر مباشرة على الوضع في الداخل؛ حيث اختلفت أولويات الثائرين، ولم تعد أبعاد الثوار لدى كثير من الفصائل داخلية من عند أنفسهم ؛ بل تَدَخلَت فيها مصادر الدعم؛ فبعد أن كانت الأولوية إزالة النظام وتأسيس نظام عادل؛ أصبح البعض يفرض نفسه كَخَلَفٍ قسري، والبعض يفرض نفسه كدولة عالمية جديدة، والبعض ينادي بنظام ديمقراطي علماني، وآخرون أسسوا فصائل ذات أسماء كبيرة يَسْتَجْدُون بها الدعم من الخارج، أو يقطعون بها طريق المارة، أو يعملون مع من يدفع لهم من الفصائل الأخرى.
ولم يكن كل الداعمين من مناصري الثورة، بل كانت منهم مخابرات دولية عملت على تأسيس بعض القوى التي تنتحل الجهاد والتكفير كي تجعل الثورة تطحن نفسها؛ وهناك للأسف داعمون صادقون في مناصرة الثورة لكنهم لم يوفقوا للسبيل الناجح لذلك؛ وكثيراً ما كانوا أعظم أَذًى.
هذه قصة مختصرة لفوضى الاحتراب التي تعيشها سورية وهي في الجملة قلَّ من يجهلها، أما التفاصيل فأشنع من أن نصدِّقها.
الغوطة الشرقية هي أقرب مناطق سيطرة الثوار إلى دمشق، ومع ذلك استطاعت أن تحقق الانفصال عن النظام في وقت مبكّر من الثورة؛ لذا قام النظام بمحاصرتها على أمل اجتياحها، لكنها بقيت حتى اليوم مستعصية عليه؛ وكانت مدينتها دوما مقراً لقيادة جيش الإسلام بقيادة زهران بن عبدالله علوش رحمه الله؛ وبعد دخول القاعدة ثم داعش والفصائل المتأثرة بالفكر التكفيري حلبة الثورة السورية، اشتد الحصار على الغوطة من قِبَل النظام ومع ذلك لم تحاول الفصائل على اختلافها فك الحصار عنها، بأعذار متعددة منها ما يمكن قبوله ومنها ما لا يمكن؛ لكن العذر الصادم هو زعم بعض الفصائل كفر جيش الإسلام، وأن علوش موالٍ لدولة تتهمها الفصائل التكفيرية بأنها دولة طغيان، وبذلك يكون خارجاً عن الملة، أو مداهناً للطواغيت، وهو بأحد هذين الاعتبارين أو بكليهما لا يستحق المساعدة بل يجب أن تُنزع الغوطة منه ويُقَاتل كما يُقاتَل النظام.
وسُئل مرة المطلوب عبدالله المحيسني عن جيش الإسلام فأشار بأن مما يأخذه عليهم "تلقيهم الدعم من مخابرات دولة طغيان" أو عبارة هذا نحوها، مع أن علوشاً أو غيره من قادة جيش الإسلام لم يزعموا يوماً تلقيهم الدعم من تلك الدولة ولا أي جهة خارجية، ولم تدَّع تلك الدولة بدورها؛ وحقيقة المشكلة بين جيش الإسلام وكثير من الفصائل التكفيرية أو المتأثرة بالفكر التكفيري هي كوّن قائد الجيش رحمه الله من العلماء الذين تخرجوا في المملكة العربية السعودية ودرسوا على علمائها، فكان زهران يبتعد بمن معه عن المنهج التكفيري ويحذر أتباعه منه أيما تحذير؛ ويصفه بعض خصومه بالإرجاء بينما يكفره الآخرون.
ومنطقياً كان من المفترض على الفصائل التكفيرية أن تترك الغوطة وشأنها بما أنها مُحَرَّرة من يد النظام؛ لكن تكفيرهم لجيش الإسلام، وحقدهم على الدولة التي يزعمون ارتباط جيش الإسلام بها جعلهم يرسلون بعض المنتسبين إلى النصرة ليشغبوا داخل الغوطة، ولَم يكن هؤلاء من الكثرة والقدرة بحيث يجرؤون على مناوأة جيش الإسلام ؛ إلا أنه بعد استشهاد زهران "كما نحسبه إن شاء الله"، قامت فتح الشام "النصرة سابقاً" والتي لم تسع يوما لفك الحصار عن الغوطة بإرسال بعض فصائلها من درعا ومناطق أخرى لتزاحم جيش الإسلام في مناطق نفوذه وتشتبك معه بدلاً من الاشتراك معه في قتال النظام؛ وقد كان اختراق هذه الفصائل لحصار النظام وتسللها إلى داخل الغوطة بالرغم من شدة التحصينات أمراً مثيراً للشك، وهي حوادث تؤكد ما كنّا نؤكده ويؤكده كبار العارفين بالشأن السوري من ارتباط قرارات الفصائل التكفيرية دون استثناء بجهات لا تريد للشعب السوري ولا لثورته خيراً ومنها النظام نفسه؛ وسوف ينكشف أمرها بشكل أكثر جلاء مع مرور الأيام إن شاء الله، لكن الأكثر مرارة أن الحقائق المرة لا تنكشف مبكراً إلا لذوي الحلم والأناة وبعد أن يسقط الغوغاء الذين لا يقيمون للحلماء وزناً في أتونها.
هذا المشهد الذي قَدَّمتُه يعطيك جزءًا من الصورة التي حالت بين الثوار السوريين وبين النصر، فالأمر كما قال تعالى (قل هو من عند أنفسكم)، فحتى المحاولات المتكررة التي بذلت لجمع كلمة الفصائل انتهت بإصدار الفصائل التكفيرية أحكام الكفر على المشاركين في اللقاءات التي عقدت لجمع الكلمة، وكذلك فعلوا مع المشاركين في جنيف وأستانة.