الرئيسة \  واحة اللقاء  \  جذور الأزمة الوطنية في سوريا

جذور الأزمة الوطنية في سوريا

11.08.2014
عمر كوش



المستقبل
الاحد 10/8/2014
كشفت طريقة تعامل النظام السوري مع الثورة السورية مدى الأزمة الوطنية العامة، التي باتت تعصف بالبلد وناسه، وعمّقها اعتماده، منذ اليوم الأول للثورة، الحل العسكري، عندما بدأ بشن حرب شاملة، مدمرة، ضد المحتجين والبيئة الحاضنة لهم، الأمر الذي عمّق الأزمة كثيراً.
وتضرب الأزمة الوطنية العامة جذورها في ممارسات امتدت لعقود عديدة خلت، أفضت إلى تآكل قيم العيش المشترك والتعاقد الاجتماعي، وبدأت منذ وصول حزب البعث إلى السلطة، بانقلاب عسكري في الثامن من آذار / مارس عام 1963، الذي أعلن عن اعتلاء فئات، عسكرية ومدنية من الطبقة الوسطى والدنيا الريفية، سدة الحكم، وإزاحة الفئات البرجوازية المدينية التقليدية، بعد أن تمكن الحزب من قطف ثمار الحراك السياسي في سوريا، إبان فترة خمسينيات القرن العشرين المنصرم.
لقد بنت النخبة العسكرية التي حكمت سوريا منذ سبعينيات القرن العشرين المنصرم، نظاماً تسلطياً شمولياً، صادر وقمع جميع أشكال الحراك السياسي والمدني والاجتماعي المخالفة له، أو تلك التي لا تصب في مصلحة خدمة نظامه. وعملت السلطة الحاكمة على تدمير القوة السياسية للنخب المدينية الغنية، مقابل تنمية دور نخب ريفية جديدة. وأسهم حزب البعث في بقاء النظام واستمراره، من خلال توسيع قاعدة السلطة اجتماعياً، حين عمل على إدخال جموع كبيرة من "الشغيلة" والفلاحين في مؤسسات الحزب ومنظماته، وحين اُستخدم، في نفس الوقت، كأداة لقتل السياسة في المجتمع، واكتفى قادته بالتمتع بامتيازاتهم السلطوية، فسكنوا أبنية فخمة ومقرات شبيهة بالقلاع، في مراكز المدن والبلدات وحواشيها، بعد أن لجأت سلطة النظام إلى تقديم غنائم مادية لمحازبيه وأزلامه، وخصوصاً في مجال خدمات الدولة والعلاوات وتسهيل الرشوة والعمولات، أو على الأقل غض الطرف عنها، فضلاً عن الامتيازات السياسية.
وأنتجت السياسة السلطوية، منذ ثمانينيات القرن الماضي، نمطاً من الإذعان، مورس على مختلف التكوينات الاجتماعية. نهض على قوة من الضبط والمراقبة، الرمزية والمادية، طاولت حتى حزب البعث نفسه، فلم يعد حزب البعث فاعلاً أو مؤثراً في قرارات السلطة الحاكمة وتوجهاتها، بل أن القيادة القطرية للحزب، فقدت دورها القيادي، ولم تعد تقوم، بدءاً منذ بداية تسعينيات القرن العشرين المنصرم، بدور الهيئة أو المطبخ السياسي، الذي يصنع القرارات، بل مجرد مركز من مراكز السلطة.
وقد رفع البعث السوري رايات العروبة والقومية وفق رؤى وتوظيفات شعبوية، جعلتها أقرب إلى إيديولوجيا منها إلى هوية ثقافية ومواطنية وعيش مشترك، وبالتقابل والتضاد مع ما كانت تطرحه الأحزاب والحركات الشيوعية ومن لفّ في فلكها من شعارات وإيديولوجيات أممية وبروليتارية فجة. وراحت السلطة التي حكمت باسمه، تمارس الاجحاف والتفتيت والتخريب بحق مختلف تكوينات ومركبات المجتمع السوري، وبحق الوطنية السورية، نظراً لأن هذا الحزب فهم القومية العربية فهماً قسرياً، إلحاقياً، يعتمد اللغة كأساس جوهري لانتماء الجماعة القومية، تحولت الأمة وفقه إلى كائن أنثوي، حددها زكي الأرسوزي في مفهوم "الأمة الرحمانية"، الذي لم يكن الأرسوزي ذاته مدركاً لمعانيه ومركباته، نظراً إلى أن مؤسسي البعث "الأشاوس"، كانوا مشدودين إلى ميتافيزيقا اللغة، وكارهين للتاريخ، ولم يدركوا من معاني اللغة ومبانيها سوى ظاهرها، وراحوا يسحبون الرابط الأبوي بشكل خيالي ومصطنع حين يتعلق الأمر بالفرد، والرابط الأمومي حين يتعلق الأمر بالجماعة، التي باتت متخيلة، تسكن أذهانهم، وبعيدة عن التربة والواقع. ووصل تأثيرهم إلى شاعر مثل أدونيس، غير البعثي، الذي مازال يستحضر صورة المرأة الجارية، كي يصور عبودية الأمة العربية، بالرغم من أنه يستهجن أي حراك ثوري فيها، وخاصة حراك غالبية السوريين، ووقف ضده علانية.
لم يؤقلم البعثيون مفهوم القومية حسب التربة العربية وتعيناتها السورية، بل لجأ المنظرون منهم إلى التحليق اللغوي الميتافيزيقي، الناكر والكاره للتاريخ، وللعيش المشترك والمصالح المشتركة، التي تجمع مختلف حساسيات وفعاليات المجتمع السوري. وزاوجت أطروحاتهم ما بين القومية، وبين متصوّرهم الخاص للاشتراكية في عملية قسرية واختزالية لا حدود لها، حيث تحوّل كل من يدور في فلك هذا الزواج من شعارات طانة ونخب ديماغوجية إلى ما يشبه المقدس، المتعالي والميتافيزيقي، يستمد قداسته من قداسة الميتافيزيقا نفسها، استناداً إلى تهويمات اللغة، وإلى جملها "الثورية" الفارغة من أي محتوى حقيقي.
ولم تعن العروبة - المطروحة سلطوياً- في أحايين كثيرة، سوى إيديولوجيا استبعادية؛ وزّع ممثلوها تهم الخيانة والعمالة على كل مختلف بالرأي والتوجه، واستبعدوا كل ما هو غير عربي، سواء أكان كردياً أم آشورياً أم غير ذلك. ثم فعلت المقايسة الميتافيزيقية فعلها الإيديولوجي الإقصائي ليتم استبعاد جميع من هم في حكم "غير العروبيين" من العرب أنفسهم، والمحصلة لمثل هذه الممارسات، كانت عروبة متعالية، معزولة، منغلقة على نفسها، تبرر الاستبداد والقمع، وتقصي جميع المختلفين مع دعاتها بالرأي أو التفكير، فاقتصرت على ثلة من الشعبويين، المعزولين عن الناس، وعن المجال المجتمعي العربي، الذ نظّر له أصحاب الرسالة الفارغة.
والمفارق في الأمر هو أن معظم السوريين، وخصوصاً من جيل الشباب، عاشوا ازدواجية مقيمة، أو لنقل وضعوا ضمن ازدواجية عميقة ومزمنة، ما بين ما يسمعونه ويلقنون به من شعارات إيديولوجية ومقولات وأهداف قومية وعروبية، عابرة للوطنية السورية، ومتعالية عليها، وبين ما يرونه على أرض الواقع السوري، ويعيشونه في مختلف تفاصيل حياتهم اليومية، من انتماءات وعلاقات وممارسات، مذهبية وطائفية واثنية، ما دون وطنية، بل طاردة لأية إمكانية لتشكيل وطنية سورية جامعة، وأفضت إلى انتفاء بناء دولة سورية لمجموع مواطنيها، لصالح تورم قطر سوري للمناضلين "الأشاوس"، الساعين إلى دولة عربية واحدة، وأمة عربية واحدة، وكانوا يقصون، في طريقهم إليها، العرب من غير البعثيين، ويقصون الكورد، على وجه الخصوص، ويقصون معهم السريان والآشوريين والتركمان والشراكسة وسواهم.
ابتعدت ممارسات النظام الحاكم عن تشييد أيةّ دالة انتماء جامعة، أو حاضنة هوية، بعد سعيه إلى تسويق إيديولوجيا طاردة للمواطنة والإجماع والتعايش، لذلك بقيت مختلف تكوينات الشعب السوري تنتظر المناخ الديموقراطي، الذي ينهي الأزمة الوطنية العامة.
وجاءت الثورة، كي تكشف عمق الأزمة، التي لن تنتهي إلا بالتخلص من مسبباتها، بما يتطلب تصحيح ما جرى من ممارسات وانتهاكات، والسير في طريق الوصول إلى دولة جمهورية، أساسها المواطنة المتساوية، بوصفها أساس تشييد وطنية سورية جديدة، تتسع للجميع، ضمن فضاء العيش المشترك، واحترام حقوق الإنسان والخصوصيات اللغوية والثقافية والدينية.