الرئيسة \  واحة اللقاء  \  جريمة الغوطة: قراءة في المعاني

جريمة الغوطة: قراءة في المعاني

29.08.2013
ربيع بركات



السفير
الاربعاء 28/8/2013
حرف مسار الأحداث أو تعجيله في سوريا يستوجب حدثاً مزلزلاً. ثمة نقطة تحوّل ينبغي توافرها من أجل توظيف ديناميات جديدة تتيح إنتاج مشهد مختلف. جريمة غوطة دمشق شكلت عنوان هذا التحول، وهي تحمل أبعاداً إنسانية وقانونية وسياسية. فاستخدام سلاح كيميائي يتجاوز كونه جريمة ضد الإنسانية على اعتبار أنه يخرق قوانين الحد الأدنى التي تسيّر المنظومة الدولية اليوم. ولئن كان هذا الخرق ليس الأول من نوعه بعدما شاركت في إنجاز ما يماثله دول كبرى في السابق من دون رادع (من بين ذلك استخدام السلاح الكيميائي ضد الأكراد وفي الحرب العراقية مع إيران في ثمانينيات القرن الماضي بعدما سهلت واشنطن حصول الحكومة العراقية على هذا السلاح، ومن بينه أيضاً استخدام اليوارنيوم المنضب بغزارة من قبل القوات الأميركية أثناء قصف العراق على مراحل ثم غزوه العام 2003)، إلا أنه يقدم اليوم حوافز تبدو كافية للتحرك من أجل تغيير المشهد السياسي والعسكري وقلب دفته.
ما حصل في الغوطة دليل على المدى الذي بلغه درك الحرب في سوريا. فإن كان النظام مسؤولاً عن استخدام سلاح كيميائي، ثمة ملف جديد يضاف إلى سلسلة طويلة من الانتهاكات التي بدأت منذ الأيام الأولى في درعا، وتوالت في أكثر من محطة سواء عن طريق أجهزته أو عبر ميليشيات رديفة. وإن كانت المعارضة المسلحة مسؤولة، فقد سبق أن رجحت معلوماتٌ استخدامها غاز السارين في «خان العسل» (بحسب عضو لجنة التحقيق الدولية في انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا كارلا دل بونتي)، ما يعني أن هذا الاستخدام ليس استثناءً عما سبق بل مجرد استكمال له. وإن كان في المسألة قطبة مخفية (كأن يكون ما حصل ناتج عن خلل تقني تسبب به هذا الطرف أو ذاك أو عن قصف لمخزونات طرف من قبل آخر)، فلم يعد اليوم لهذه القطبة أن تقدم أو تؤخر، لا لناحية التكلفة الإنسانية الباهظة، ولا السياسية والعسكرية بطبيعة الحال، بعدما وُظف الحدث لاتخاذ قرارات كبرى.
قضية الغوطة، أيضاً، عنوان أزمة أخلاقية بالغة. إذ ثمة من ربط موقفه من الجريمة بهوية المجرم، فتقلص تبعاً لذلك هامش رفض المذبحة إلى حدود التوظيف السياسي المباشر. وهناك من جملة السياسيين والمعلقين على مدى الأيام الفائتة من أيد التدخل الدولي بمعزل عن هوية الطرف المتسبب في المأساة. وهناك، في المقابل، من علق ضعف إدانته للواقعة على شماعة تدخل محتمل كهذا. جريمة الغوطة، بهذا المعنى، ثبّتت ترهل المعايير، وأكدت أن الضحايا يقيّمون بحسب إفادتهم البرنامج السياسي للنظام أو بعض معارضيه. هكذا كان التعاطي مع جرائم سابقة: من بانياس إلى دير الزور فالحولة وريف اللاذقية، وغيرها الكثير مما تم تصنيفها وفق انتماء الضحية، أولاً وقبل كل شيء، حتى وإن كان الضحايا كلهم مدنيين.
والغوطة تذكير بماضي المنطقة وتأكيد على حاضرها. لا يعوز المرء أرشيفٌ عتيق لاستذكار مجزرة حلبجة، لكنه أيضاً لا يحتاج إلى ذاكرة ثاقبة لاستحضار فبركات وزير الخارجية الأميركية الأسبق «كولن باول» في مجلس الأمن الدولي قبيل إجهاز قوات بلاده على الدولة العراقية تمهيداً لمأساة عمّرت عقداً من الزمن وما زالت تعمّر. وإن كان ماضي المنطقة يحيل إلى الكثير من الهزائم التي أنتجتها أنظمة حاكمة تعاني من خلل تكويني وقيَمي عميق، إلا أنه يشي أيضاً بوجود قدر كبير من «المؤامرات»، و«المؤامرات» - بعيداً عن الاستخدام الممجوج للمصطلح - جزء من طبيعة العلاقات الدولية. أما حاضر المنطقة الذي تؤكده الواقعة وما تلاها من مواقف، فهو امتداد لظاهر الماضي المذكور، وكشفٌ وتكثيفٌ لما استبطنه هذا الماضي من نوازع فئوية لجماعات المنطقة.
الغوطة، كذلك، مقياس لتحوّلات الوعي في العالم العربي. فقبل عامين ونيف، برز مزاج شعبي عربي عريض (يصعب قياس مداه) متقبلٌ لتدخل قوات حلف شمال الأطلسي «الناتو» في ليبيا. وقد كان هذا المزاج معاكساً لذاك الذي رفض الحرب على العراق العام 2003. وبرغم اختلاف الحيثيات بين هاتين الواقعتين، على اعتبار أن ليبيا كانت تشهد حراكاً شعبياً مهدداً بالسحق فيما العراق كان تحت حصار دولي يسحق مجتمعه، إلا أن البعض اعتبر أن الفارق بين المزاجين إنما يعكس تحولاً في الوعي العربي لناحية مقاربة العلاقة مع الخارج والمفاضلة بين تدخله العسكري من جهة والاعتماد على قدرات محلية لمقارعة الأنظمة السلطوية من جهة أخرى. غير أن الكثير من المياه جرت منذ إسقاط نظام القذافي بضربات «الناتو»، منها ما يتصل بواقع ليبيا المهترئ اليوم، ومنها ما يتعلق بإعادة الاعتبار إلى هياكل الدولة التقليدية في بلد مركزي كمصر، مع ما يعنيه ذلك من تراجع القبول بمبدأ تجاوز «الدولة» والاستعانة بالخارج. «ما بعد الغوطة» يطرح تحدي القبول بتدخل الخارج (ومداه) ويسلط الضوء على مدى التحول في الوعي العام العربي بهذا الخصوص.
ملف الغوطة، فضلاً عما سبق، اختبار لموازين القوى الدولية ولإرادة الحل الذي يرجح فرضه من الخارج على الداخل. فقد كشفت الجريمة عن المدى الذي يمكن لكل طرف دولي أن يبلغه في معركة «شفير الهاوية» تمهيداً لعقد تسوية تعيد إنتاج الواقع السوري. وفي هذا الإطار، بدا الموقف الروسي متذبذباً فيما برز إصرار غربي على استثمار اللحظة من أجل صناعة بدائل على الأرض. لكن أياً من الانكفاء الروسي أو الاندفاعة الغربية لا يوضح مآل الأمور تماماً. فالحسم لا يبدو وارداً إلا إذا أتى من ضمن سلة تفاهمات إقليمية. واليوم، قوس المعركة يمتد من بغداد مروراً بدمشق وصولاً إلى بيروت، فيما بعض ساحات الخليج واليمن أقرب إلى بؤر توتر نائمة. والترابط بين هذه الساحات لا يحتاج إلى أداء عبقري لفهمه. لكن، برغم ذلك، ثمة ما يدعو للتذكير بالعاملين الإقليمي والدولي في النزاع وبأنهما يحددان أطر الحرب من دون أن يدفعا فاتورة دمائها. وثمة ما يذهل في مناطحة البعض دلائل، تكاد تكون دامغة، تشي بأن الحسم النهائي مستحيل، وتؤكد أن اللهاث وراءه يضاعف من نزف الدم ويزيد من تقرّح الجراح المفتوحة.
يبقى القول إن الغوطة، قبل كل ما ذكر وبعده، ليست مجرد انعكاس للواقع السوري بل لواقع المشرق العربي بأسره، وضحاياها هم ضحايا هذا الواقع البائس.