الرئيسة \  واحة اللقاء  \  جسدانيّة "الممانعة"

جسدانيّة "الممانعة"

26.05.2014
دارا عبد الله



المستقبل
الاحد 25/5/2014
استشاطةُ الإعلامٌ الممانِع، بشقَّيه المرئي والمكتوب ملوِّحاً بتفوُّقه الصاروخي، وذلك لمجرّد أن يذكر كاتبٌ على صفحته الفيسبوكيّة الخاصّة عبارة "الراحلة فيروز". كاتبٌ ممانع آخر يطلب من المختلفين معه في السياسة والرأي إلى "تحسُّسِ رقابهم". مواقف عابرةٌ تدعونا إلى استخلاص صفات بنيويّة قارَّة في نسيج الفكر الممانع، تتعدَّى الانحياز السياسي المباشر إلى هذا الطرف أو ذاك، بل تدفعنا إلى المجازفة بنَحت مصطلحٍ، يمكن أن نسمّيه "جسدانيّة الممانعة".
فعند فهم عبارة "الراحلة فيروز"، بمعنى الأفول المادي العياني الجسدي، وليس بمعنى الرحيل الثقافي التاريخي لمرحلة منقضيةٍ من التاريخ اللبناني مثلاً، أو الرحيل المعنوي الفني كأسلوب في الغناء ومزاجٍ في الفن، يجعلنا نتوقَّع أن مشكلة الممانعة ليست مع أفكارنا ومعتقداتنا وآرائنا، بل مشكلتها الجوهريّة هي مع كينونةِ أجسادنا بوصفها أجساداً، مع وجودنا الفيزيائي الطبيعي، مع كتلتنا الوزنيّة الظاهرة. من لا يستخِلص سوى الإماتة الجسديّة من هذه العبارة، لا يمكن أن يسعى إلا لموت جسد قائلها.
وليس من تقليد الفكر المُمَانع أن يستقرّ الصراع في رَحْبة الأفكار، كونُهُ صراعا عرضيا ومتغيّرا، تتأثَّر فيه الذوات المعنويَّة المتحاورة وتنمحي، لتتولَّد ذواتٌ جديدةٌ تتأثَّر مرَّة أخرى، بل يجب أن يبقى الصراع في مِنصَّة حَرَم الجسد، ليبقى صِراعاً ماهويَّاً وحيد الاتِّجاه، لا ينتهي إلا بتمكُّن أحد الطرفين من إفناء جسد الطرف الآخر وزجِّهِ في العدم، صراعُ أدواته الصواريخ والملثّمون وكواتم الصوت، فهمهُم للعبارة من المدخل الجسدي الضيق، يفشي مشكلتهم الأساسية مع أجسادنا، التي يبدو أنّهم قد ضاقوا ذرعاً بها.
ولأنَّ الجسدانيَّة المطلقة هي التمثيل المعاكس المكافئ للتشدّد الطهراني الأصولي، فليس غريباً والحال كذلك، أن يكون الشاهد العسكري الواقعي المجسِّد للفكر الممانع، حزبٌ ديني طائفي يمتلك نظرة طهرانيَّة صافية تجاه العالم والوجود والأشياء. لائِقٌ ومفهوم هذا التزاوج بين كلّ من ميليشيا حزب الله ( الظلاميّة الروحانيّة) والفكر النظري الممانع (الجسدانيّة القصوى)، ومضحِكةُ هي الدعوات التي تفصل بين بنية الفكر الممانع وسلاح حزب الله، هي قريبةٌ تقريباً من الدعوات التي تبرَّئ بشكلٍ مُطلق ممارسات الأصوليِّين الإسلاميين عن العدة النظريّة النصيّة للإسلام، كعادة مبرّري التوتاليتاريّة دوماً في تبرئِة النصوص المؤسِّسة، وإلقاء اللوم على "مطبقيها".
ولا تتمَفْصل "الجسدانيَّة الممانِعة" مع الطّهارة المعنويَّة فقط كما في نموذج "حزب الله"، بل لها قابليَّة في أن تنحدر إلى حضيض اتّهام الآخرين بـ"النجاسة الجسديَّة"، كما في مسألة "جهاد النكاح" التي ظهرت مؤخَّراً في خطابها المرئي والمكتوب (جريدة الأخبار- قناة الميادين- قناة المنار ....)، إذ يتمُّ في هذا الصدد التركيز على عدميَّة غريزيّة جنسيَّة غامضة مغروسة في أجساد الآخرين (وهم دوماً من المختلفين سياسيّاً بالضرورة)، مع خلطها بروايات مخيالٍ فالوسي مريض (شيوخ دين يمارسون الجنس، قاصرات يتناوب على اغتصابهن مسلحون ملتحون .....)، إنّها الممانعة التي لا ترى في الآخرين المختلفين، سوى أجساد (لا ذوات) شبقة و"دنسة"، جائعة جنسياً إلى ما لا نهاية.
ولعل ما يجعل المنظومة التوتاليتاريَّة الممانعة سهلة النفاذ إلى العدميَّة الجسديَّة بأداة الأصوليّة الدينيّة، هو ركاكة متنها العقائدي، وضعف طاقتها التخيّليّة- التحويّلية ( الواقع المعاش والواقع المتخيّل) كما تقول "حنّة أردنت"، بمعنى آخر كلّما ابتذِلَ العمق النظري، زاد احتمال حضور كلّ من العصب الطائفي والفناء الجسدي.