الرئيسة \  واحة اللقاء  \  جنيف ـ 2 يترنّح!

جنيف ـ 2 يترنّح!

01.02.2014
د. نقولا زيدان


المستقبل
الجمعة 31/1/2014
عندما برزت في أواخر ثمانينيات القرن المنصرم امكانية إجراء مفاوضات عربية إسرائيلية بحثاً عن حل شامل لمشكلة الشرق الأوسط، عبّر شمعون بيريز عن الرؤية الاسرائيلية للحل بأنه أشبه ببناء متكامل من عدة طبقات يتم الدخول إليه عبر الطابق الأرضي ويتجسد بالاعتراف المتبادل، ثم يجري الصعود فيه تدريجياً طابقاً تلو الآخر من خلال العلاقات الاقتصادية والثقافية وطرق المواصلات... حتى الانتهاء، بالطابق العلوي ألا وهو الحل الشامل. إلا أن هذا الحل لم يرَ النور حتى يومنا هذا رغماً عن معاهدة كمب دايفيد ومفاوضات مدريد وواي بلانتايشن والمبادرة العربية (الأرض مقابل السلام)... بما في ذلك عودة ياسر عرفات ومعاهدة وادي عربة.
هكذا اقتبس النظام السوري على طريقته المنهج ذاته في تعاطيه مع مؤتمر جنيف2 الجاري حالياً، فكما كانت نوايا اسرائيل الفعلية لا ترمي الى ايجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، فإن النوايا الحقيقية لبشار الأسد ونظامه حيال جنيف2 لا تتمثل في حل سياسي يتلخص بالاعتراف ببيان جنيف، الذي ينص على تشكيل حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية وبالتالي تنحّيه عن السلطة.
بالوقت المستقطع وبالتلاعب والمراوغة يعتقد بشار الأسد اجتياز امتحان جنيف2 بنجاح، ذلك انه في حقيقة الأمر في حال وصول المؤتمر الى نتائج ملموسة فإن ذلك سيؤدي حتماً الى تنحيه عن السلطة وتسليم مقاليدها الى الحكومة الانتقالية. ولأن الحل الفعلي يقع في الدور العلوي فإن هم فريق العمل الذي أرسله الى جنيف يجب أن يتمحور حول المسائل الأخرى على أهميتها بالنسبة لبلد يعاني منذ ثلاث سنوات جحيم حرب أهلية هائلة وبالتالي عدم الوصول الى حل.
مهدت موسكو وطهران للمؤتمر المنشود بسلسلة مناورات بدت في غاية الضرورة والأهمية عندما بدأ نظام الأسد يترنح رغماً على تدفق الأسلحة الروسية عليه وتكفّل النظام الايراني بدفع أثمانها، فقد التهمت الحرب الأسدية غالبية القطع النادر في الخزينة السورية وبدأ الجيش النظامي ينهار وإدارة الأسد نفسها تتفسخ. عندها هبّ النظام في طهران لنجدة حليفه بالجنود والمقاتلين ابتداء بالحرس الثوري الايراني وانتهاء بحزب الله اللبناني. بل أسوأ من ذلك بكثير عندما انتهك الأسد الخطوط الحمر كلها مجرباً حظه مع استخدامه للسلاح الكيماوي بوتيرة تصاعدية ابتداء بخان العسل وانتهاء بفاجعة الغوطة الشرقية. اكفهر الجو الدولي وبدت الضربة العسكرية الأميركية والأممية وشيكة. إلا أن الظروف الداخلية للولايات المتحدة وبريطانيا وتخاذل الادارة الأميركية أفسحا في المجال لعقد اتفاق كيري لافروف، خاصة عندما أعلن الأسد استعداده للتخلي عن مخزون الكيماوي. بل استفاد النظام الأسدي من عدة عوامل تضافرت لتساعده على الاستمرار: تمنّع أميركا عن تسليح الجيش السوري الحر بالأسلحة الفعالة والضرورية، فتح الأسد حدود سوريا الشرقية على مصراعيها أمام تنظيم "داعش" وتزويده بالسلاح والذخائر بل بالمغاوير والقتلة المحترفين من جنوده، المناخ العام الاسترخائي الذي عمّ المنطقة العربية بفعل الاتفاق النووي الايراني مع الغرب، النجاح الأولي الذي أصابه من جراء الترويج الاعلامي لمخاطر الارهاب وامكانية تسلله لصفوف الثورة، غياب أية مساندة لوجستية ضخمة وتراجع الدور التركي ومخاوف عمان من التورط في الحرب...
كان الجهد الروسي والايراني ينصب على محاولة تفريغ مؤتمر جنيف2 من محتواه الحقيقي وتحويله الى مؤتمر لمكافحة الارهاب وقد لعب حزب الله اللبناني وهو الممسك عملياً بالوضع اللبناني دوراً هاماً في اثارة المخاوف الدولية من الارهاب عندما تورط كلياً في الحرب السورية وإرخاء ظلال مذهبية عليها ما أدى ليس الى انقسام داخلي مذهبي لبناني فحسب بل الى تعرض لبنان الى أعمال انتقامية وتفجيرات وعمليات انتحارية. وبدت المحمية الايرانية وهي لبنان في خطر داهم مزدوج: الأول مصدره النظام الأسدي والثاني المجموعات الارهابية المناوئة له، فكانت دمشق تنظر بعين القلق الى النتائج والذيول الناجمة عن الاتفاق النووي الايراني وتتخوف من موافقة طهران على بيان جنيف1 وإذعانها للإرادة الدولية بضرورة رحيل الأسد. وإلا كيف نفهم عودة الاغتيالات والتفجيرات ذات البصمات الأسدية الى لبنان. كانت أشبه بتحذيرات أسدية لإيران عبر لبنان بعدم الانزلاق في جنيف2 للموافقة على رحيل حاكم دمشق. وقد عزز بدء الجلسات العلنية لمحاكمة المشتبهين الخمسة من حزب الله وتورط دمشق نفسها في الاغتيال الذي أطاح بالرئيس الشهيد رفيق الحريري من مخاوف دمشق.
مهّد بشار الأسد لموافقته على حضور المؤتمر بسلسلة مقابلات صحفية وتصريحات من أركان نظامه كلها تصب في إصراره على البقاء في السلطة مع توصل جنيف2 الى حل سياسي منقوص أو بدونه.
بدأ المؤتمر أعماله وكانت كلمة الوزير وليد المعلم قمة في التحدي والاستفزاز حيث لم يشر قط الى الحل السياسي بل اقتصر كلامه بالحديث عن الارهاب، بينما جاءت كلمة المعارضة السورية هادئة وموضوعية متمسكة بنص بيان جنيف1 ووجوب اقرار وفد النظام به للدخول في المفاوضات. وقد أكد بان كي مون على هذا المضمون رغماً من الاستفزازات التي لجأ إليها المعلم.
المبادرة التي قام بها الأخضر الابراهيمي متجاوزاً المواقف المبدئية التي عبّر فيها كل من كيري ولافروف عن موقفه، كانت في جمع كل من الوفدين تحت سقف واحد ولو كل على طاولة منفردة عن الآخر.
الخطوة الثانية التي قام بها الابراهيمي تتمثل في موافقة الطرفين على القيام بخطوات انسانية (وصول المساعدات الى حمص القديمة...) هذا رغماً عن الظلال المربّعة التي أرخاها نشر الصحف البريطانية والأوروبية الصور الوثائقية حول تصفية 11 ألف معتقل في أقبية الزنازين الأسدية.
إلا أن البناء الذي تحدثنا عنه حول المفاوضات للوصول الى حل سياسي للأزمة السورية على ما تشير الوقائع لا يدل على أية نية لدى الوفد الأسدي للوصول الى الحل. فالتهرب والمماطلة والمراوغة والتملص من الاقرار ببيان جنيف1 هو الموقف الفعلي لفريق عمل الوفد الأسدي.
ليس هذا فحسب بل عمد وفد النظام بوضع الشروط والعراقيل للحؤول دون تنفيذ الخطوات الانسانية الأولى التي جرى الموافقة عليها، ذلك عندما تقدم وفد النظام بطلب قائمة بأسماء المعتقلين المطلوب الافراج عنهم، فلما استجيب لطلبه من قبل المعارضة راح فيصل المقداد نائب وزير الخارجية الأسدي يتقدم بشروط جديدة ألا وهي اقتراح اخراج النساء والأطفال من حمص القديمة المحاصرة منذ شهور، لا بل وجوب اخضاع هؤلاء للتفتيش عند خروجهم.
وتتلخص محاولات الوفد الأسدي بإفشال المؤتمر بالخطوات التالية:
ـ رفض النظام الأسدي فك الحصار عن حمص القديمة ومنعه وصول المساعدات الانسانية من دخولها.
ـ تصريح فيصل المقداد فور خروجه من جلسات الثلاثاء 28 الصباحية بأن رحيل الأسد هو وصفة دمار لسوريا وان بقاء هذا الأخير هو الضمان الوحيد للصول الى حل سياسي.
ـ الاتهامات الصارخة الموجهة للولايات المتحدة بعد نشر وسائل الاعلام المعلومات التي تشير الى الجلسة السرية للكونغرس الأميركي وقراره بتسليح المعارضة السورية في الجنوب (درعا).
ـ تهديده العلني للرأي العام الدولي بإبقاء الحرب مشتعلة خمسين سنة أخرى كما قال.
ـ زجره الصحفيين ووكالات الأنباء التي تطالب وفد النظام بموقف صريح من بيان جنيف1 والحكومة الانتقالية المنشودة.
ـ تحدثه باستمرار للصحافة العالمية عن "جنيف" بالمطلق والابهام دون تحديد أي منها هو المقصود.
ـ محاولة بعض أعضاء الوفد الأسدي الاستخفاف بالمفاوضات غير المباشرة، كأن يترك البعض منهم الجلسات المنعقدة والخروج الى الممرات للترويح عن النفس...
إلا أنه في المقابل، تشير المعلومات الموثقة ان الاتصالات واللقاءات السرية الجانبية التي يعقدها كيري ولافروف والتي يشارك في بعضها الابراهيمي بعيداً عن الأنظار، ما زالت قائمة على قدم وساق. وتبقى جميع الاحتمالات واردة. فلنصبر لبعض الوقت، فما زلنا في بداية المعمعان.