الرئيسة \  واحة اللقاء  \  "جنيف ـ2": ساعة الحقيقة

"جنيف ـ2": ساعة الحقيقة

26.01.2014
د. نقولا زيدان


المستقبل
25/1/2014
ينعقد مؤتمر جنيف 2 (مونترو) في ظل أجواء هي أقرب للتشاؤم والاكفهرار من المراهنة على نجاحه وامكانية التعويل عليه لتحقيق وانجاز الأهداف التي أعد من أجلها. فباستثناء وفدي النظام الأسد ونبرته العالية من جهة ووفد المعارضة المفرط في تفاؤله حول امكانية تحقيق غالبية مطالبه هناك، فإن باقي الوفود داخلة الى أروقته بسقف منخفض من الآمال والتوقعات.
وإذا كانت المعارضة السورية قد حققت نجاحاً ملحوظاً من خلال تهديدها بالعودة عن قرارها بالمشاركة فيه في حال مشاركة ايران التي تعتبرها طرفاً منخرطاً في النزاع المسلح الدائر في سوريا موجهة انذاراً حاسماً لأمين عام الأمم المتحدة بضرورة سحب دعوته لطهران للاشتراك فيه، وهذا ما حصل فعلاً، فإن هذا النجاح يظل جزئياً ومحدوداً بالنسبة للمهمة الرئيسية ألا وهي تنحي الأسد وتشكيل حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات طبقاً لبيان جنيف1 الذي رفضت ايران الموافقة عليه كشرط أولي لقبول اشتراكها في أعماله. ولا بد في هذا المجال من ملاحظة الموقفين السعودي والأميركي اللذين كانا عاملين حاسمين لعودة "بان كي مون" عن دعوته غير المدروسة الأبعاد. فقد حسمت الادارة الأميركية أمرها في هذا المجال كما انها كانت رسالة قوية من "الرياض" موجهة لإيران التي بالغت خطأ في استنتاجاتها العجلى بانعدام قدرة العرب على الممانعة بل المواجهة حيال طموحاتها الاقليمية المزدادة شراهة بعد عقدها مع الغرب اتفاقها النووي.
تجلّت تعبيرات سقف النظام الأسدي المرتفع في العديد من المواقف عشية المؤتمر: مقابلة الأسد الاستفزازية مع احدى وكالات الأنباء العالمية التي يجدد فيها عزمه على ترشيح نفسه لولاية جديدة، استخفافه الأرعن بالمعارضة السورية واصفاً اشتراكها في الحكومة الانتقالية المتوخاة بأنها عبارة عن "مزحة" وانها مسألة غير جدية، تصريح وليد المعلم فور وصوله بأن الأسد "خط أحمر"... أما المعارضة السورية فقد أحسنت صنعاً بمزاوجة تفاؤلها المبدأي بقول رئيس الائتلاف ان معركة المفاوضات ستكون قاسية.
يتبيّن لنا وبالملموس ان الرئيس الايراني "روحاني" ليس قادراً عملياً على التملص بين قبضة الحرس الثوري الايراني وقائده قاسم سليماني وسائر صقور النظام، فالذي جرى في ما يتعلق بالأزمة السورية ان تصريحات وزير خارجيته محمد جواد ظريف حوّل امكانية سحب القوات الأجنبية من سوريا قد ذهبت ادراج الرياح خلافاً للوجه البشوش الذي قدمه لنا في لبنان ومحاولته الناجحة في تهدئة روع حزب الله ونصحه له بمهادنة قوى 14 آذار في المرحلة الراهنة. إلا أن تصريحاً واحداً لم يصدر من أوساط الحزب حول احتمال سحب مقاتليه من سوريا ما يؤكد مجدداً أن الكلمة الفصل في هذا المجال ما زالت بيد الحرس الثوري كما هي الحال على الساحة الايرانية كما نعلم.
ليس الايرانيون وحدهم في منطقتنا من يجيدون الرهان على عامل الزمن والوقت المستقطع والنفس الطويل كما هي لعبتهم المفضلة الشطرنج، بل الروس أنفسهم كما ينبئنا التاريخ منذ الحروب النابوليونية وصولاً لإلحاقهم الهزيمة بالجيوش الهتلرية في الحرب العالمية الثانية فقد امتص الفريقان ضربة استبعاد "طهران" عن مؤتمر جنيف2 ليردوا في مكان آخر متى أتيحت لهم الفرصة. فكما أنقذت موسكو وطهران الأسد من سقوط وشيك، فإن روسيا قد تأخذ على عاتقها انقاذه في جنيف2، إلا إذا كانت المعلومات حول امكانية تخليها عنه أثناء المفاوضات مقابل الإبقاء على نظامه وذلك كما يزعم المراقبون لأن بدعة جديدة تطل علينا مباشرة قبل بدء الجلسة الأولى ألا وهي تداول صيغة مثيرة للاهتمام والريبة في آن معاً: تنحي الأسد من جهة والابقاء على النظام من جهة أخرى بذريعة الحفاظ على الدولة والمؤسسات ووحدة الأراضي السورية وبالأخص المؤسسة العسكرية السورية. ويعتقد هؤلاء المراقبون ان اتفاق كيري لافروف يتضمن هذه القراءة المشتركة للحل السياسي المنشود. فالأميركيون غير راغبين في تكرار خطأهم الفادح في العراق عندما حلّوا الجيش العراقي هناك فأصبح مهمة عصية إعادة استنهاضه من جديد. ولعل هذا ما يفسر سلوك أميركا المريب حيال الجيش السوري الحر وتلمس الأعذار الواهية في دعمه لوجستياً وتلبية مطالبه الملحة مما أتاح للأسد فرصة ذهبية ليس لاستجلاب قوات ايرانية وميليشيات حزب الله ولواء أبو الفضل العباس فحسب بل كذلك استقدام قوات داعش وفتح "بشار" أبواب سوريا على مصراعيها أمام شتى المجموعات الارهابية الأخرى.
يتحدث الفرنسيون عن جنيف2 انه فرصة نادرة لإحلال السلام في سوريا لكنهم لا يشيرون فقط الى المهلة الزمنية المرتقبة لإرساء هذا السلام مع هذا الكم الهائل من الفصائل والمجموعات السلفية التي تقاتل هناك. لسوف يتطلب عودة السلم الأهلي الى سوريا حتى بعد رحيل الأسد، حقبة زمنية ليست قصيرة على الاطلاق. ومن المرجّح ألا تغامر الأمم المتحدة بإرسال قوات دولية الى هناك.
لقد كان لافتاً عشية المؤتمر بمكان نشر صور مشاهد التعذيب حتى الموت التي تظهر لنا مدى بربرية ووحشية النظام الأسدي بحق المعتقلين والموقوفين، تلك المشاهد التي تذكرنا كثيراً بمعسكرات الاعتقال النازية. فهل ستشكل هذه الوثائق احدى المواد التي ستضمنها أوراق العمل أثناء المؤتمر؟
يعتقد بعض المراقبين ان توقيت نشرها الآن هو الرسالة الأكثر فصاحة ودوياً في الرد على الأسد ومن ورائه النظامان الايراني والروسي في كل ما له علاقة بالإرهاب، فبشار الأسد الذي لجأ الى الخداع والمراوغة والتضليل والتمويه والتعمية في التعاطي مع جميع المبادرات العربية والاقليمية (التركية على سبيل المثال) والدولية (كوفي أنان والنقاط الست) وإفشال جهود المراقبين العرب والدوليين، هو الذي استقدم داعش الى سوريا وهو المسؤول الأول عن دخول القاعدة ونشوء تنظيم النصرة، وهو الذي استنفر الغرائز المذهبية والطائفية عند الأقليات بل هو الذي شجع وسهّل للمجموعات الكردية المسلّحة أعمالها العسكرية وإعلانها الانفصال. بل كانت ذروة ممارساته استدعاء قوات الحرس الثوري الايراني وحلفائه وصولاً الى حزب الله اللبناني للتدخل العسكري المكشوف والعلني لمناصرته في مواجهة الانتفاضة الشعبية المسلحة وذلك بذريعة الدفاع عن المقامات الشعبية المقدسة. لقد أدخل وحلفاؤه سوريا بل المنطقة العربية في دهليز الصراع السني الشيعي المسلح وفي اتون الارهاب الذي راحت موجاته الارتدادية تطاول العراق ولبنان كل ذلك ليسوق نفسه في الغرب بطلاً مزوراً لمكافحة الارهاب. لا بل حتى روسيا نفسها تلقفت هذه السياسة التدميرية الاجرامية وتبنتها محاولة حرف مؤتمر جنيف2 عن أهدافه الأساسية الداعية لتشكيل حكومة سورية انتقالية كاملة الصلاحية لتحول المؤتمر عن مساره فيصبح مؤتمراً لمكافحة الارهاب بالمنظور الأسدي والقراءة الأسدية.
فكما أنقذت الديبلوماسية الروسية الأسد من الضربة العسكرية الدولية واستطاعت استغلال تلكؤ وتأرجح سياسة الرئيس أوباما وتخاذله الفاضح حيال جرائم الأسد الكيماوية، فقام الاسد بحركة التفافية ماكرة بتسليم مخزونه الكيماوي وأفلت بذلك من العقاب فإنه بالضبط عن طريق حرف مؤتمر جنيف عن أهدافه ومساره، يعتقد الروس انه باستطاعتهم انقاذه ثانية وهذا بالضبط ما كان سيسعى إليه الوفد الايراني هناك لولا اقصاؤه.
كل هذه الأسئلة المحقة وهذه الاحتمالات والفرضيات والعوامل المؤثرة نسمعها وندركها الآن ونحن ما زلنا في بداية المؤتمر.