الرئيسة \  واحة اللقاء  \  جيل الضياع وقوارب الموت!

جيل الضياع وقوارب الموت!

17.04.2016
د. خالص جلبي


الاتحاد
السبت 16-4-2016
أرسل شاب عربي في "الواتس آب" لوالده صورته ضاحكاً مستبشراً، وهو يتلقى من امرأة سمراء وثيقة نيله الجنسية الأميركية، فهل هو يوم فرح لنيل جنسية وطن آخر أم حزن على ترك الوطن الأم؟ الواقع أن الشاب لم يطرح هذا السؤال على نفسه لأنه خرج ولم يعد، وحين يتحدث مع من يحب في أرضه غير المحبوبة، يقول لست في نية العودة إلا زائراً فأزور المقبرة التي تضم رفات والدي فأقرأ عليه الفاتحة، ثم أثني فأزور من أحب ممن بقي على قيد الحياة.. أما بقية ذكرياتي في وطني الأصلي فهي كرب وضيق وفقر وشقاء وانعدام فرص العمل. ويقولون عن هذه النماذج إن أفضل لحظات اتصالها بالوطن هي لحظات الطائرة حين يقدم الواحد منها وحين يغادر. فالوطن هو من يوفر الحياة الكريمة.
ويقولون إن الصدر الأعظم كان يحذر السلطان العثماني: مولاي، إن ثمة تحولات في أوروبا، نازلات صاعدات، ومن المناسب أن تزور أوروبا، وتطلع على ما يجري فيها. وقبل ذلك كان جواب المقتدر بالله العباسي: إن سلطان المسلمين لا يزور أوروبا إلا فاتحاً. كان هذا في الزمن الماضي، أما الآن فشباب كثير من الدول المسلمة يتوسلون لأوروبا أن تأخذهم، ويهرعون بكل سبيل بما فيها "قوارب الموت" يلتمسون حياة ممكنة، بعد أن لم تبق حياة في بلادهم الأصلية.
نفس هذا الكلام أو شبيهه ينطبق على سلاطين الموحدين ومن بعدهم، عندما كانوا يتأملون مجريات الأحداث في إسبانيا المواجهة لهم. وكيف لا وقد أزالوا دولة البرتغال من الوجود في معركة وادي المخازن.
حالياً الأتراك يحلمون بالانضمام إلى أوروبا وأوروبا ترفض. ومن يدخل أوروبا من العمال الأتراك يشتغلون في أصعب الأماكن كمصانع الحديد وما شابه ذلك.
والمغاربيون بدورهم ينتقلون بقضهم وقضيضهم إلى أرجاء المعمورة الأربعة خاصة أوروبا. وحالياً تعتبر اللغة العربية هي اللغة الثانية في فرنسا بعد لغة موليير.
ألقيت مرة محاضرة في مدينة مغاربية وسألت عن أهلها؟ قالوا لي إن معظمهم في إيطاليا! وكنت مرة أخرى في زيارة لبلدة في الدواخل في أقصى الريف، ولما سألت صديقي بوشعيب عن أخيه حسن؟ قال: هرب في بطن حافلة لنقل الركاب، وكاد يهلك اختناقاً في الطريق، ولكنه نجا من الموت، فهو يعمل الآن في باريس! سألت حسن الذي كان بالكاد يفهم لهجتي: أراك تركب سيارة مرسيدس مستعملة! قال نعم. قلت له ماذا تعمل؟ وقد ظننت أنه يعمل في "بزنس" مهم! فأجاب معتداً واستخدم كلمة فرنسية، وأنا لا أجيد منها حرفاً! وبعد ذلك تعاون مع أخيه بوشعيب وقال: جمع النفايات. هززت رأسي متأسفاً.. مع احترامي لكل المهن.
كنت في ألمانيا لفترة تسع سنوات، وتعرفت على العديد من الأتراك ودخلت بيوتهم، فظننت نفسي أنني أعيش في الأناضول، أو "حلكو" من سوريا (ريف تعيس). كنت أحزن حينما أقارن مجد العثمانيين، وقد انقلب دور الأتراك فيه إلى عمال بسطاء في بلاد الجرمان. كنت أكرر "ارحموا عزيز قوم ذل".
كتب سياسي تونسي معللًا الإرهاب والتطرف وهو يتلقى جائزة تعايش الأديان في إيطاليا، إنها أحقاد التاريخ المتراكمة! أما الحل فاعترف بعد كلمات كثيرة طويلة أنه ليس ثمة حل لا في المدى المنظور ولا في المدى الطويل، وإنما ألوان من المقاربات من التنمية والتربية والتجديد الديني، ولعل خطبة الجمعة تأتي في مقدمة عتبات التجديد، بتغيير نظم الخطاب الديني لدى البعض من وعظي عدواني إلى سلامي روحاني.
والوضع نفسه ينطبق على كثير من شباب العرب كالشاب الذي فرح بنيل جنسية دولة أجنبية، لأنه يمثل جيلًا مشرداً هارباً، يبحث عن أي فرصة للحياة بعد أن لم تبق في بلده حياة.