الرئيسة \  واحة اللقاء  \  حدث ذلك في الذكرى الرابعة للربيع العربي

حدث ذلك في الذكرى الرابعة للربيع العربي

04.04.2015
داود الصايغ



النهار
الخميس 2-4-2015
في ذلك اليوم انتقلت توكل كرمان الشابة اليمنية، من أحياء صنعاء الفقيرة الى القصر الملكي في استوكهولم لتتسلم جائزة نوبل للسلام. فالتفت العالم الى تلك الصبية المحجبة، وأخذ يقرأ الربيع العربي على ملامحها السمراء، كأنها كانت الوردة المخبأة في جنة عدن. حدث ذلك منذ أربع سنوات، منذ دهر.
خرجت توكل كرمان من ذلك الأسر الطويل الذي فرضه التاريخ. إذ عندما قالوا ذات يوم للإمام أحمد حاكم اليمن ما بين 1948 و1962 بأن على المرأة أن تتعلم أجابهم: من أجل ماذا؟ فقالوا له: حتى تحسن الكتابة. فقال: تكتب لمن؟ وانتهى الأمر عند هذا الحد.
يومذاك خرج اليمن معها الى النور، في وجهه الآخر. تماماً كما خرجت تلك الوجوه الشابة والغاضبة في ميدان التحرير بالقاهرة، ملبية نداء محمد البو عزيزي من وراء مثواه، لتغير مجرى التاريخ.
فحروب الشرق تتراكم اليوم. فتحت اليمن أبواباً جديدة لتصبح الأزمات موصولة، ولتبسّط قراءة الخريطة السياسية التي لم تتضح معالمها بعد في الصراعات الدامية. فهل هنالك ما بات يجمع بين حروب سوريا وانقسامات العراق ومواجهات اليمن؟ هل يمكن اختصار ذلك بالعمل على صراعات مذهبية عابرة للحدود، في ما يتجاوز الحدود الجغرافية التي سبق لها أن رسمت، ثم حاولت "داعش" إزالتها، وبأطماع امبراطورية توسعية أرادت خرق التوازنات الثابتة في المنطقة عبر مغامرات شديدة الخطورة؟
منذ أيام كانت العواصم منشغلة بتصريحات وزير الخارجية الأميركية جون كيري الذي أوحى أنه في النهاية لا بدّ من التحدث مع بشار الأسد. وردّ الجميع عليه عربياً وأوروبياً قبل أن يتراجع. وانفعلت فرنسا التي سبق لرئيس وزرائها أن وصف الأسد بالجزّار عندما قام وفد برلماني فرنسي بزيارة دمشق من دون موافقة الحكومة الفرنسية. وقالت وزارة الخارجية إن القضية ليست قضية أخلاقيات فقط، بل قضية فاعلية وفائدة، إذ ماذا ينفع الحديث مع نظام حكم لا يسيطر إلا على أربعين في المئة من الأراضي السورية؟
لكن الأنظار وعدسات المصورين العالميين توجهت فجأة صوب جنوب الجزيرة العربية، حيث نشبت حرب جديدة في بلد لم يعرف الهدوء يوماً، فظلمته أنظمة الحكم الفاسدة والعشائرية ووضعته في خانة التخلف الشديد مستسلماً لإغراءات الجهاديين و"القاعدة" و"داعش" على سبات ماضغي "القات" والانتظار الطويل.
تحار تلك العدسات اليوم ماذا تصور في ذلك الشرق الملتهب: أقاطعي الرؤوس مع "داعش"، أم أطلال حلب المتراكمة تستغيث بالزمان، أم صراخ الأطفال يقضّ مضاجع الأوفياء، أم الأنهار العربية الملونة بالدم القاني، أم طائرات الائتلاف الدولي تضرب مواقع داعش، أم التحالف العربي بقيادة السعودية تضرب مواقع الحوثيين. يحدث هذا كله في وقت واحد. ويطرح السؤال نفسه بقوة القذائف: الى أين يقود كل ذلك، وما هو الوضع الذي سينشأ في الشرق العربي بعد انقشاع غبار المعارك التي تتسع رقعتها وأهدافها يوماً بعد يوم؟
بالطبع يحدث كل ذلك بعد فوز نتنياهو في إسرائيل ومراهنته على ضرب فكرة الدولتين في فلسطين. يحدث ذلك بعدما تلقى باراك أوباما صفعة قوية من حليفه الإسرائيلي الدائم الذي تحداه في عقر داره بالتواطؤ مع الجمهوريين، الذين كتب سبعة وأربعون عضواً منهم الى القيادة الإيرانية يناشدونها ألا توقع اتفاقاً نووياً مع بلادهم.
يحدث ذلك وأوباما مصمّم على تحقيق ما يعتبره أهم إنجاز في ولايتيه وهو الإتفاق مع إيران، والذي يرى أن لا بديل منه. وإيران مشغولة في اليمن الآن، مشغولة في سوريا، مشغولة في العراق، مشغولة في البحرين... ومشغولة في لبنان، حيث تمكنت من إقفال باب انتخاب رئيس جديد للجمهورية. مشغولة بطموحات جعلت بعض مسؤوليها يهذون وهم يتحدثون عن امبراطورية شاسعة عاصمتها بغداد، الى أن جاء أوان إعادة الأمور الى النصاب الصحيح، والتوازن الى حدوده. لأن في هذه الفوضى العارمة اليوم في الشرق العربي، مسؤولية كبرى لإيران. إذ باسم ماذا قضى حتى اليوم مئات الشبان اللبنانيين من "حزب الله" في سوريا دفاعاً عن النظام السوري وعن رأس المحور الذي ارتبطت به سوريا منذ أيام حافظ الأسد وهو إيران؟
وهكذا غابت سوريا عن العرب في القمة الأخيرة. أصبح المشهد ملك التاريخ. العرب من المحيط الى الخليج توحدوا في رؤية مشتركة للأخطار التي تتهددهم وقالوا كلمتهم الجامعة. لكن نظام الحكم السوري نقل قلبه من دمشق الى طهران. فخفق القلب العربي في شرم الشيخ. على أن سوريا لن تبقى غارقة في الركام، متروكة على حافة الطريق العربي. لأن ذلك الحلف، ذلك المحور كان منذ الأساس مخالفاً لمنطق التاريخ ومنطق الجغرافيا. إذ لا شي يبرر مد تلك الجسور العابرة للمساحات الشاسعة إلا عصبيات يرفضها عالم اليوم. فكل ما يحدث في عالم اليوم يقاوم العصبيات والتمييزات على أنواعها، في الحدود المفتوحة والآفاق المفتوحة على التواصل والمعرفة واحترام الآخر وقبوله. فالشرق العربي اليوم هو شاغل العالم وهاجسه، ليس بسبب خطورة ما يجري فيه فحسب، بل بسبب النقيض الذي بات يمثله لواقع الغرب وتطوراته.
فهل يعقل أن يتحول خطاب البعض ترجمة لهذه العصبيات، بعد الأفعال؟ وأن يكون هنالك من يخاطب العرب كأنه خرج منهم؟ فهل خرجت سوريا أيضاً؟ أجمع العرب للمرة الأولى منذ زمن طويل، ولم تكن سوريا بينهم. قادها النظام الى المجهول، بما فيه مجهول الكيان نفسه.
هذا ما حدث في الأسبوع الأخير من آذار 2015. هذا ما حدث في الذكرى الرابعة للربيع العربي. ومن قال إن الربيع العربي مات؟