الرئيسة \  واحة اللقاء  \  حروب باردة... وحروب بالإنابة

حروب باردة... وحروب بالإنابة

29.06.2013
د. صالح عبد الرحمن المانع

الاتحاد
السبت 29-6-2013
توترت العلاقات الأميركية الروسية مؤخراً بسبب مشكلة الجاسوس الأميركي السابق، «إدوارد سنودن»، وهربه من هونج كونج عبر موسكو، وعدم تسليم السلطات الروسية له إلى الولايات المتحدة.
و«سنودن» شخصية مثيرة للاهتمام، فقد وُلد في عائلة عسكرية، ودرس الكمبيوتر في كلية صغيرة، وأصبح مغرماً ومولعاً به، كما تعلّم اللغتين اليابانية والصينيّة، وتحوّل من المسيحية إلى البوذية، حين عاش فترة من حياته العملية في جزيرة هاواي الأميركية.
وقد حاول الالتحاق بالقوات الخاصة المحاربة في العراق عام 2004، ولكن كسراً في ساقيه حوّله من الخدمة العسكرية إلى العمل الاستخباري، وعمل فترة من الزمن في «سي آي أيه» ووكالة الأمن القومي، في أمن المعلومات، قبل أن ينخرط في عمل مماثل مع شركة متعاقدة مع الاستخبارات الأميركية، حيث اطّلع على قدر هائل من المعلومات الخاصة بالأفراد، والتي كانت تُراقب من قِبل وكالة الاستخبارات الأميركية، ونظيرتها البريطانية. وقد استقال «سنودن» من عمله، وقام بتسريب بعض المعلومات التي بحوزته لجريدة «الغارديان» البريطانية، وأصبح بين عشيةٍ وضحاها محبوب الجماعات الحقوقية وجماعات حقوق الإنسان، وعدواً لدوداً للجماعات اليمينية في الولايات المتحدة.
وقد حاولت الولايات المتحدة اعتقاله في هونج كونج، غير أنه استطاع أن يغادر إلى موسكو، وهو اليوم يجول في قاعات الترانزيت بمطار موسكو الدولي.
وتمثل حادثة «سنودن» في العلاقات الروسية الأميركية فصلاً من سلسلة طويلة من الحوادث والتوترات بين الطرفين، لم تشهدها تلك العلاقات منذ أيام الحرب الباردة. وترفض الحكومة الروسية القبض على «سنودن» بادّعاء أنه لم يعبر حدودها الدولية، وأنه ليس مجرماً في نظرها، بل مُطالب بحقوق أساسية للمواطنين. ويضيف الرئيس الروسي بوتين أن موسكو لا تربطها اتفاقية لتسليم المجرمين مع واشنطن، فهي غير ملزمة بتسليمه.
وتأتي مسألة تسليم «سنودن» في وقتٍ تتعرض فيه العلاقات بين موسكو والدول الغربية لتوترات متعددة. فموقف الحكومة الروسية غير الأخلاقي من حرب بشار الأسد ضد شعبه، شوّه صورة روسيا في معظم بلدان العالم. وحسب استطلاعات نشرتها مؤسسة «جالوب» مؤخراً، فإن 50 في المئة من الأميركان ينظرون باستهجان إلى السياسة الخارجية الروسية الحالية تجاه بلادهم، غير أنهم لا يعتقدون أنها عدوة لهم. بينما ينظر الشعب الروسي باستحسان نحو الولايات المتحدة، وبنسبة تصل إلى 52 في المئة.
وفي العالم العربي، تدهورت أيضاً صورة روسيا، التي وقفت في الماضي بجانب الحقوق العربية. وتشير آخر استطلاعات للرأي نشرت خلال عام 2012، إلى أن حوالي 26 في المئة فقط من العرب ينظرون بصورة إيجابية نحو السياسة الخارجية الروسية، وربما تراجعت هذه الصورة في الوقت الحاضر بشكلٍ أكبر مما كانت عليه من قبل.
ويعود تدهور العلاقات بين موسكو والولايات المتحدة إلى موقف واشنطن في حرب جورجيا مع إقليم أبخازيا عام 2008، حيث ساندت الولايات المتحدة حكومة جورجيا ضد روسيا وحلفائها في منطقة القوقاز. كما ساندت الحكومة الأميركية موقف المحتجين ضد انتخاب بوتين للرئاسة في العام الماضي. وألقت واشنطن القبض على عددٍ من الجواسيس الروس، مما دفع موسكو إلى تبنّي قرار في مجلس «الدوما»، يمنع تبني الأطفال الروس من قِبل آباء أميركيين. وجاءت الأزمة السورية الحالية لتظهر الوجه الحقيقي للقيادة الروسية. وعلى رغم أنّ الحرب في سوريا لا تشغل بال كثيرين في الولايات المتحدة، إلا أنّ استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية قد أثار الكثير من السياسيين، والشعب الأميركي ضد سياساته اللاأخلاقية بحق شعبه.
وعلى رغم أنّ هناك تحفظات روسية حول الحرب في سوريا، ودفاعاً عن مصالح سياسية واستراتيجية، إلا أنّ القيادة الروسية الحالية ترى أنّ من مصلحتها أن تقف في وجه الهيمنة الأميركية في المنطقة، حتى لو كان ذلك على حساب حياة 100 ألف مواطن سوري قتيل. وكما يقال، فحين تتصارع الفيلة، تتهشم أعواد القصب.
غير أنّ العلاقة بين الجانبين الروسي والأميركي ليست علاقة مواجهة. ففي العام الماضي، ساندت الحكومة الأميركية طلب روسيا الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، كما وقفت موسكو إلى جانب الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين ضد البرنامج النووي الإيراني.
والإشكالية العميقة في هذا الجانب، أنّ البُعد الأخلاقي في السياسة الدولية قد تراجع إلى ما كان عليه إبّان الستينيات والسبعينيات، حين كانت الملامح العسكرية هي السائدة في علاقات الحكومات والشعوب. ويغيب عن كثيرين أنّ الأبعاد العسكرية، وإن كانت فعّالة، فهي غالية التكاليف، سواءً على من يمارسها، أو على ضحاياها.
وتترك هذه السياسات جروحاً غائرة في ذاكرة الشعوب، يصعب على تلك الشعوب أن تمحيها. كما أنّ تحسّن العلاقات وتحوّلها إلى جوانب اقتصادية وثقافية، من شأنه أن يخفف من الاحتقان السياسي والشعبي، وأن يفتح مجالات جديدة للتعاون البناء في علاقات الدول، ليس فيما بينه فحسب، ولكن كذلك في علاقات أطراف ثالثة. فالعنف بطبيعته مثل المرض، الذي يخترق الحدود ويؤثر على الشعوب، ويجيّش العامة، ويُستخدم من قِبل الساسة بيُسر لحقن النفوس والخواطر. أما علاقات التعاون فتُنتج ناتجاً أكبر مما وُضع أصلاً فيها، ويمكن أن تجذب الجميع إلى مائدة عامرة، تزدهر فيها اقتصادات الدول ودخول الأفراد ومعاشهم.
والسؤال الذي يُطرح غالباً، هل ستنقضي هذه المرحلة في العلاقات المتوترة بين الجانبين الأميركي والروسي؟ أم أن هناك المزيد ما سينعكس في طرح ظلال هذا الصراع على منطقتنا العربية؟