الرئيسة \  واحة اللقاء  \  "حزب البوط"

"حزب البوط"

09.05.2015
حسان حيدر



الحياة
الخميس 7-5-2015
في عز ازدهار الحركات والأحزاب القومية واليسارية في خمسينات وستينات القرن الماضي، ثم مع اشتداد عود تنظيمات المقاومة الفلسطينية في السبعينات، كان معظم ملصقات الدعاية السياسية يحمل شعارات تدعو الى "تحرير" الشعوب، عربية وسواها، بالقوة و "العنف الثوري"، من "الاستعمار" ومن "التبعية" للغرب الذي كان يُرمز إليه برسوم لحذاء عسكري (بوط) أسود يطأ خرائط أو جماهير مفزوعة، مجسداً "القوة الغاشمة" التي ترزح تحتها دول لم تنل استقلالها بعد، أو أنظمة لا تتطابق سياساتها مع مفاهيم الحزب أو التنظيم صاحب الدعوة.
ومن بين هذه الأحزاب، كان "البعث" أشهر من استخدم، منذ نشأته في أواخر الأربعينات، لغة تمجيد العنف، وحرّض على استخدامه وسيلة للوصول إلى السلطة، وهو ما تحقق له بسلسلة من الانقلابات العسكرية الدامية في سورية والعراق، لا يزال هذان البلدان يعانيان من ذيولها حتى الآن، بل تشمل المعاناة دولاً أخرى شاء حظها العاثر أن تكون قريبة منهما، مثل لبنان والكويت.
ولم يكن تركيز "البعث" على تجنيد ضباط الجيش وليد الصدفة، بل اعتُمد لاقتناع قادة الحزب، بشقيه السوري والعراقي، بأن الإمساك بالجيش يختصر المراحل ويقصر الزمن اللازم للاستيلاء على الحكم وتحقيق "الوحدة والحرية والاشتراكية". وكانت قناعات القيادة نفسها وراء التراتبية في شعار الحزب هذا، إذ تأتي الحرية لاحقة على الوحدة ورهن تحققها أولاً. وبما أن الوحدة "البعثية" المنشودة لم تنجز، بل فشلت محاولتها الوحيدة فشلاً ذريعاً، ظلت "الحرية" قيد الانتظار، ولا تزال.
ومع الوقت، نجح "البعثيون" في تحويل الشعوب التي حكموها، مع اختلاف المدد الزمنية، إلى شعوب خاضعة لـ "البوط" العسكري نفسه الذي كانوا يدعون الى تخليصها منه. وصارت أجهزة الأمن والاستخبارات الوسيط الوحيد بين الحكام والناس، وحُكمها المعيار الإلزامي لـ "الوطنية" والولاء، ورضاها المسار الضروري لطالب الوظيفة والارتقاء الاجتماعي والمالي. وكان مصير الذين يفشلون في "الامتحان الوطني العام" الإعدام أو السحل أو الإخفاء أو السجن الذي يُسامون فيه صنوف التعذيب ولا يخرجون منه سوى إلى القبر. ويواكب الدعس بـ "بوط" المحققين والسجانين كل هذه الحالات.
ولاحقاً انضمت طهران، "الثورية" هي الأخرى، إلى "حزب البوط"، داخلياً وخارجياً. لكنها قسمت نفسها بين معاد متشدد له في العراق ومؤيد صلب له في سورية. فتحولت جزمة صدام العسكرية السوداء عندها الى "عدو" وجزمة بشار العسكرية السوداء الى "صديق". ثم أشرفت، بعد دور أميركي فذّ في بلاد الرافدين، على مرحلة انتقالية انتهت بتعميم "البوط" نفسه في العراق وسورية، بعدما تولى "حزب الله" فرض نموذج مشابه في لبنان، وألحق بسواده ملابسَ مقاتليه الذين انتشروا في العاصمة بيروت.
ولم يكن غريبا إذن، أن تعمد مذيعة من المنتمين الى معسكر "الممانعة" والمؤمنين بغلبته، بعدما ورثت إيران "البعثيْن" وتولّت قيادته، الى تقبيل جزمة جندي نظامي سوري، على ما عرّفتها وهي تعانقها بشغف، على شاشة التلفزيون الحكومي السوري، مؤكدة أن "هذه الجزمة أهم عندي من كل شيء"، بعدما استأذنت رمزي معسكرها "السيد حسن وأخونا بشار".
إنه "البوط" وجمهوره، فهو إذ يدوس الرقبة، يصبح قريباً جداً من الشفتين.