الرئيسة \  واحة اللقاء  \  حسين العودات.. عصر في رجل

حسين العودات.. عصر في رجل

17.04.2016
ميشيل كيلو


العربي الجديد
السبت 16-4-2016
إذا كان هناك نفر قليل يلخص تطور السوريين السياسي في النصف الثاني من القرن الماضي وما انصرم من هذا القرن، فإن حسين العودات كان أحد أبرز رجال هذا النفر الذين واكبوا تطور شعبهم، وما عاشه وطنهم من أحداث، وعرفه من حكام وهزائم، وتعرّض له من خيباتٍ، وبلوره من خيارات، وتبناه من أفكار.
كان أبو خلدون فتى يافعاً، عندما ضيعت السياسات العربية فلسطين. ومثل كثيرين من أبناء جيل النكبة، رد عليها بالانتساب إلى حزب البعث الذي كان بعض قادته قد ذهبوا إليها للدفاع عنها ضد الصهاينة، وعادوا من هناك، قانعين بأن حرباً أخرى لا بد أن تُخاض داخل سورية، ضد ما سماه ميشيل عفلق، في إحدى مقالاته عام 1946 "حكم التخت والمزرعة". بعد أعوام قليلة من الكارثة التي عاشها راحلنا الكبير، وهو على مقاعد الدراسة في قريته الصغيرة، أم الميادن، قرب الحدود الأردنية، تعرّف أبو خلدون على حوران ومناطق من جبل العرب في العطل الدراسية، حيث كان يعمل "جمّالاً" يجوب قراهما وبلداتهما، وتلتقط ذاكرته مشاهد البؤس والتخلف والجهل التي ظهر أثرها لاحقاً في رؤيةٍ سياسيةٍ، تجاوزت اجتماعياً ما كان "البعث" يوليه لقضايا الشعب الفقير، وجعله أحد ممثلي "اليسار الاشتراكي" في الحزب. وقد تعزّز هذا الجانب في شخصيته من خلال ما عرفه في أثناء قيامه بالتدريس في حوران، وتقلده وظائف إدارية تتصل بالتعليم. لذلك، اقترب، بعد انقلاب "البعث" العسكري عام 1963 من تياره اليساري الذي أعطى القضية الاجتماعية الأولوية على القضية القومية، وأيد التعاون مع الحزب الشيوعي، وعارض ملاحقته واضطهاد كوادره ومناضليه. في هذه الأثناء، كان دور أبو خلدون يبرز بسبب المكانة التي احتلها قلمه في عالم الإعلام، وما أبداه من درايةٍ في إدارة مؤسساته، الرسمية طبعاً التي لم تكن مواقفها متطابقةً في قضايا معينة مع مواقف "القيادة".
بعد هزيمة حزيران، والصراعات التي أعقبتها، وانتهت بانقلاب حافظ الأسد على الحزب ورفاقه، افترق أبو خلدون نهائيا عن الحزب، على الرغم من محاولات احتوائه بمناصب أسندت إليه. في هذه الفترة، اقترب أبو خلدون من الحزب الشيوعي، وحين أيقن أن هذا الحزب وجه آخر للنظام، شمله هو أيضاً بالنقد الذي كان يوجهه في مقالاته للأمر القائم، وصار واحداً من طبقةٍ ثقافيةٍ مستقلة حزبياً، معارضة للنظام وجبهته الوطنية التقدمية وأحزابها الكركوزية، أعادت قراءة أفكار ماركسية عديدة والتثقف بها، في ضوء التجربة السورية للسلطة، وما رسخته في الحياة السورية من ظلمٍ طبقي غير مسبوق باسم الاشتراكية، وقُطرية صارخة ومعادية للعرب باسم القومية، وقمع شامل طاول جميع فئات الشعب باسم الحرية، وسلطوية غاشمة، أمنية ومتعسكرة، قادت البلاد إلى هزائم متعاقبة أمام العدو الإسرائيلي، بعد أن سلمته الجولان، واستقوت باحتلاله من أجل البقاء في الحكم.
وشهدت هذه الحقبة زيارات أبو خلدون المتكرّرة أجهزة الأمن التي لاحقته بالمضايقات
"تكثف سيرة حسين العودات تاريخ سورية الحديث وما عرفه من وعودٍ كاذبةٍ" والاعتقالات، قرابة ثلاثين عاماً، كان قد أسس في أثنائها دار نشر حملت اسم "الأهالي"، طبعت مؤلفاتٍ وترجماتٍ لكتّاب ومفكرين سوريين وعرب، ممن كانوا قد انفكّوا بدورهم عن النظام العربي الفاسد والقمعي، والتحقوا بسياساتٍ أسستها قراءاتٌ ثقافيةٌ، استهدفت إعادة إنتاج المشروع العربي، باعتباره مشروع حريةٍ قبل أي شيء آخر، أي مشروعاً للمواطن العادي الذي لا بد أن يجعل حريته رهانه السياسي الرئيس، ويربط بها جميع رهاناته الأخرى، بكل ما يجب أن يتجدّد بواسطتها في ميادين الاشتراكية، باعتبارها عدالةً اجتماعية، والوحدة هدفاً ومهمة للدولة الوطنية، والحرية قيمةً تتعين بها المساواة والديمقراطية والكرامة الإنسانية.
 
بهذه المقدمات، وقبيل موت حافظ الأسد بأيام، كان حسين العودات من أوائل من أسسوا "لجان إحياء المجتمع المدني في سورية" التي رفضت المعادلات السياسية السائدة بين السلطة والمعارضة، وأخرجت السياسة من إهابهما، ونقلتها إلى حيز جديد، هو حرية المواطن الفرد: نقطة الارتكاز في وجوده التي إن فقدها فقد كل شيء، حقوقه وكرامته وإنسانيته، ولا بد أن يناضل لنيلها إذا كان سيثور على نظام عنيف وسلطوي، يفكّك مجتمعه ويغيبه عن الشأن العام، ويعرّضه لقدر لا يرحم من الاضطهاد الذي يصدر عن سلطةٍ وعدته بالحرية. وكان من الطبيعي أن يكون مكتب أبو خلدون وبيته مقر اجتماعات اللجان اليومية الدورية والطارئة، وأن يتولى الإنفاق على كثير مما كانت اللجان توزعه من مقالاتٍ ونشراتٍ ظرفية، وأن يكون من كتاب "إعلان دمشق" وكتاب ومفاوضي "إعلان بيروت/ دمشق ـ دمشق/ بيروت"، وأحد المثقفين الستة الذين دعوا، بعد الثورة، إلى توحيد المعارضة، واقترحوا خططاً، ودعوا ممثلي التجمعين المعارضين الرئيسين إلى لقاءاتٍ حوارية حول مشروعيهما. كما كان من المفهوم أن لا يبقى نائباً لرئيس "هيئة التنسيق" التي تشكلت من الحزب الناصري، ومزق يسراوية متنوعة، فكرّس قيامها انشقاق المعارضة، بدل أن يوحّدها، خصوصاً بعد أن بدأ بعض قادتها يغازلون النظام، ويتعرّضون للإدانة من الشعب، حتى أن مواطني دوما منعوا منسقها العام من حضور مجلس عزاء أقيم لأحد شهداء المدينة من الناصريين، مع أن المنسق هو الرئيس المفترض للحزب الناصري الذي ينتمي الشهيد إليه.
لم يغادر أبو خلدون سورية بعد الثورة، بل بقي فيها إلى أن وافته المنية، على الرغم مما كان يتعرّض له من مضايقاتٍ، بسبب كتاباته شديدة الوضوح والجرأة، وإسهاماته التلفازية التي دافعت عن حق الشعب في الثورة ومقاومة جرائم النظام، وكشفت حجم ارتكاباته ضد عزّلٍ يطالون سلمياً بأقدس ما في وجود الشعوب والأفراد: الحرية. ولم ينقطع أبو خلدون، على الرغم من ظروفه الشخصية الصعبة، وأمراضه المتكاثرة، وفقده إحدى عينيه، عن تكريس وقته للدفاع عن الناس، بالكتابة في الصحف والاتصالات اليومية معهم، وعبر البحث وإصدار دراسات وكتبٍ عالجت، بعلمية وصراحة، أكثر قضايانا التاريخية والراهنة حساسيةً وأهمية، من تلك المتصلة بالإسلام وتاريخه ومدارسه الفقهية ومشكلاته السياسية والفكرية إلى قضايا الأقليات وحقوقها، والمرأة ودورها، والسياسة ومعانيها ومرتكزاتها.
تكثف سيرة حسين العودات تاريخ سورية الحديث، وما عرفه من وعودٍ كاذبةٍ، قدمها انقلابيون طيّفوا السلطة، وأحلوا مصالحهم محل مصالح وطنهم العليا، وعاشه، في المقابل، من نضالاتٍ قام بها مواطنون، ضحوا بكل شيء من أجل نصرة المظلومين، وإنقاذ شعبهم وأمتهم، بما عرف عنهم من شجاعةٍ أدبية وجرأة، وتحد لموازين قوى كانوا الطرف الأضعف فيها، لكن حبهم وطنهم وولاءهم لشعبهم جعلهم يؤمنون بما كان كثيرون يعتبرونه جنوناً: أعني الإيمان بأن الثورة واجبة وآتية، وأن دورهم يلزمهم بالتمهيد لها، والانخراط فيها، من دون حساباتٍ صغيرة أو شخصية، ومن دون يأس.
كان أبو خلدون نموذجاً لهذا المثقف الذي بدأ حياته متحزباً، وأنهاها مناضلاً وثورياً، يؤمن أن انتصار ثورة الشعب انتصار له، حياً أو ميتاً.
صديقي وأخي أبو خلدون: نم قرير العين، فقد حققت الثورة لك ولنا الامتلاء الإنساني والوجودي الذي لولاه لكانت حياتنا مأساة مرعبة، ولكنا فشلنا في أن نبارح الدنيا ونحن سعداء.