الرئيسة \  واحة اللقاء  \  حقائق صعبة.. تنتظر اعترافَ السوريين بها

حقائق صعبة.. تنتظر اعترافَ السوريين بها

13.07.2015
د. وائل مرزا



الشرق القطرية
الاحد 12/7/2015
من البداية. مفهومُ (الاعتراف) الوارد في هذا المقال لايعني مجرد (المعرفة) وأخذ العلم بالحقائق (الصعبة) المذكورة، فهذا حاصلٌ ولاينفعُ في قليلٍ أو كثير. وإنما يعني الإقرار بوجود تلك الحقائق كواقعٍ عملي ينبغي أخذه بعين الاعتبار عند التفكير بالوضع السوري ومحاولة فهمه، ثم أخذه بعين الاعتبار في معرض البحث عن طرق التعامل مع هذا الواقع. بمعنى ألا يكون العلمُ بالحقائق المذكورة مجرد مدخلٍ لاستهجانها وشجبها وإدانتها والتعامل معها بمنطق الهجاء والشتيمة، وكفى الله المؤمنين القتال، كما يُقال، وكما هو الحال.
رغم هذا، لايعني الاعتراف بالحقائق أيضاً الاستسلامَ النهائي لها كما هي، والقبولَ المُذعِن الانهزامي لمعطياتها وآثارها في واقع السوريين، وفي طريقة عملهم لثورتهم وبلادهم. وإنما المقصودُ بذل الجهد الواعي القائم على التخطيط والعمل والمتابعة للتعامل معها بمهارةٍ واحتراف، وصولاً إلى أقصى مايمكن من توظيفها إيجابياً في دفع مسيرة الثورة إلى الأمام.
والمقصود بالسوريين هنا بعض شرائحهم الخاصة حيناً، وجموعهم الكبرى في معظم الأحيان.
أولاً. لايمكن للسوريين استيراد معارضين من (سويسرا)! هذه بضاعتُنا اليوم.. وهي بضاعةٌ تم (تصنيع) ثقافتها عبر أكثر من خمسين عاماً بمزيجٍ عجائبي لايمكن إحصاءُ مكوناته من المواد الداخلة في عملية التصنيع، رغم كل المحاولات التي تتحدث عن الظلم والكبت والقهر والتجهيل والتسطيح و..
فَرزَت أربعةُ أعوام كثيراً من الغثﱢ والسَّمين. تعلمَ فيها البعضُ وأصبح أفضل، وتعلم فيها البعض وأصبح أسوأ.. فَهمَ قومٌ خلالها حقيقة السياسة، فباتوا أقرب لامتلاك أدواتها وأهلاً للعمل فيها، وظنﱠ قومٌ أنهم فَهمُوها، لكنهم لايزالون يعيشون (الوهم) اليوم، وسنرى حكمُ التاريخ فيهم غداً.. قالها أجدادنا منذ زمن: "كل إناءٍ بما فيه ينضح". من هنا، فالآنية تنضحُ، وستنضحُ إلى حين. ولكن، لايوجد في الواقع السوري اليوم من يملك (رفاهية) إلغاء البعض هنا والبعض هناك. ثمة (اختيارٌ طبيعي) يحصلُ مع الأيام، وبطريقةٍ لاتُدركها النظرات والأحكام المستعجلة، إلا أن الواقع المذكور، بكل تفاصيله، حقيقةٌ من الحقائق التي يهدف المقال لتأكيدها.
ثانياً. لم يعد ثمة معنى لمحاولة إلغاء قوى المعارضة الموجودة خارج (الائتلاف الوطني) أفراداً ومجموعات، كما هو الحال تماماً بالنسبة لأوهام (تجاوز) الائتلاف وتشكيل بدائل له أو الالتفاف عليه بدعمٍ من هنا أو هناك. تغيرت الظروف كثيراً خلال العامين الماضيين، وتُحسب لقيادة الائتلاف هنا محاولاتها في هذا المجال، لكن على الائتلاف أن (يعترف) بشكلٍ قاطع بمحدودية قدرته على التفكير والحركة. بمعنى أن يجد وسائل مُبتكرة لاستيعاب القوى الجديدة والقديمة الموجودة في الساحة السياسية. يمتد هذا على طيفٍ واسع يبدأ من المجموعات الكثيرة التي التقت، مثلاً، مع المندوب دي مستورا، والتي نتجَ عن فعالياتها تراكمٌ يُستفاد منه بشكلٍ أو بآخر، ويمرﱡ بشرائح من النشطاء والساسة المنشقين عن النظام الذين اكتسبوا بدورهم مزيداً من الخبرات والمعارف، ولاينتهي مع المجاميع السورية التي التقت في القاهرة الشهر الماضي، والتي نتج عن لقائها، رغم كل المخاوف السابقة، وثيقةٌ فيها الكثير مما يمكن أن يتفق عليه السوريون.
من العبث القولُ هنا بأن المطلوب (توسيع) الائتلاف بالأشكال الكاريكاتورية السابقة لاستيعاب كل المكونات المذكورة أفراداً ومجموعات، فهذه دعوةٌ للفوضى الكاملة تنظيمياً وسياسياً، وإنما المقصود إيجاد آليات، لانهاية لأشكالها، بوجود شيءٍ من الإبداع في التفكير السياسي.
ثالثاً. العائق الأكبر والأهم والحاسم في وجه سقوط نظام بشار الأسد هو (عدم وجود البديل). هذه، من ناحية، حقيقةٌ ربما يعرفها السوريون جميعاً، ولكن من باب العلم بالشيء كما ذكرنا. وهي، من ناحيةٍ أخرى، أكبرُ (حجةٍ) يحتج بها النظام الدولي للحفاظ عليه حتى الآن. حسناً. لايوجد في عالم السياسة المعاصر شيءٌ يُسمى (عدم وجود بديل) بشكلٍ مُطلق ونهائي وحاسم. و(حماية) بشار الأسد من السقوط حالياً من قبل روسيا وإيران، وأمريكا وأوربا، وبعض الدول الإقليمية، سببها (وظيفي) وليس (شخصياً). من هنا، فالمهمة الأكبر للمعارضة السياسية والعسكرية السورية تتمثل في الانكباب على تشكيل البديل المذكور. وهذا البديل يتمثل في كلمتين: (أشخاص) و (رؤية سياسية). أشخاص يمتلكون (ربما سوياً كمجلسٍ عسكري أو مختلط) القوة المادية والمعنوية لضبط تفاعلات مابعد سقوط الأسد، و (رؤية) تُؤمِّنُ حداً أدنى من التنظيمات السياسية والدستورية والقانونية للبلد، ولكن الأهم من ذلك أن (تتعهد) بتأمين ترتيباتٍ إقليمية تضمن استمرارية الأوضاع فيه كما هي عليه، حيثُ يكون ذلك مطلوباً.. وتُساهم في معالجة الفوضى، حيث يكون ذلك مطلوباً..
رابعاً. آن الأوان لتتصرف جميع الفصائل العسكرية، والإسلامية منها تحديداً، بناءً على خبرتها الميدانية والسياسية المحلية والإقليمية والدولية التي اكتسبتها، دون جدال، خلال السنوات الثلاثة الماضية منذ بدء عسكرة الثورة. لم نستعمل قاصدين عبارة (آن الأوان لتُدرك الفصائل حقائق الواقع..)، لأننا جميعاً نعرف أنها أدركت، وبشكلٍ في غاية القسوة، كل الحقائق. لكن بعضها لايزال يتصرف مع هذا الإدراك بدرجةٍ من (أخذ العلم) الممزوجة بـ (بقايا المثالية) القديمة.. لم يعد ثمة مجالٌ للاستئثار بساحة العمل العسكري، ولا للتنافس على الدعم، وأحياناً على الصيت والشهرة. لم يعد هناك إمكانٌ لأحلام إقامة (الدولة الإسلامية) ولا للحديث بمنطقها أو استخدام وسائل وهياكل توهم بإمكانية تحقيقها. لامجال بعد اليوم، لدى الفصائل، للاستخفاف بالمعارضة السياسية السورية، مع كل أخطائها ومشكلاتها. لامفر من (الواقعية) بكل مافيها من تفريقٍ استراتيجي بين المصالح العاجلة والآجلة، والفردية والعامة. بل لامهرب من (براغماتيةٍ) مدروسة لاتعني على الدوام، كما يفهم البعضُ بسذاجة، بيعَ المباديء والمتاجرة بالقضية. هذه ثنائياتٌ متناقضة لاتوجد إلا في أذهان أغرار في العمل السياسي والعسكري والاستراتيجي، ولايليق أبداً أن تبقى في ذهن من يعمل بصدق لبلاده وأهله، خاصةً بعد هذه التجربة الهائلة بكل معاني الكلمة.
خامساً. من رابع المستحيلات أن يصل السوريون إلى رؤيةٍ سياسيةٍ محترفة متكاملةٍ، قدر الإمكان، يمكن أن تكون جزءاً من (البديل) المطلوب إقليمياً ودولياً، بالاعتماد على العاملين بشكلٍ مباشر في حقلي السياسة والعمل العسكري. الأرجح أن أغلب أهل الفصائل زاهدون أصلاً في مثل هذه المهمة، أو مدركون لاستحالة قيامهم بها. لكن كثيراً من ساسة المعارضة السورية موهومون بأن (السياسي) هو الذي يضع مثل تلك الرؤية، وليس أبعدَ عن الحقيقة في عالم السياسة المعاصر من هذا الوهم. ففي هذا العالم، يقوم الخبراء والمتخصصون والتكنوقراط بإعداد الرؤية بتفاصيلها المعقدة، ثم إن الساسة يضبطون بعض جوانبها ويُجرون فيها شيئاً من التعديلات. وهذه حقيقة أخرى تفرض على المعارضة السورية أن تنظر عَبرها إلى هذه المهمة بمنظارٍ جديد.
مرةً أخرى، ثمة (نافذة فرصة) للسوريين وثورتهم في هذه المرحلة. لم يعد هناك طرفٌ سوري يستطيع أن (يأكل الكعكة) لوحده، مع الاعتذار على التشبيه، لا على سبيل المصالح الحزبية والإيديولوجية والشخصية، ولا على سبيل (الإخلاص).. نحن أمام مفترق طُرُق حساسٍ وفريد يَصلُ بين واقع الإنهاك الكبير للجميع من جهة، والفرصة الفريدة لهم ولبلادهم من جهةٍ أخرى. والاعتراف بالحقائق السابقة مدخلٌ للأخذ بالقرار الصحيح.