الرئيسة \  واحة اللقاء  \  حلب الكواكبي وطرابيشي والإسلام المنفتح

حلب الكواكبي وطرابيشي والإسلام المنفتح

19.09.2016
مرح البقاعي


الحياة
الاحد 18-9-2016
من نافلة القول أن الدولة الوطنية التي تشكّلت في غير بلد عربي بُعيد الحرب العالمية الثانية والاستقلال، لم تنعم إلا بفترات قصيرة جداً بحكم وطني مستقل، مدني وتعدّدي وديموقراطي، قام على أيدي مستنيريها من النخب. ففي سورية مثلاً، لم ترَ هذه الدولة الوطنية النور إلا لفترة وجيزة جداً إثر الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، وهي فترة حكم شكري القوتلي التي أطاحها انقلاب العقيد حسني الزعيم عام 1949، وهو الانقلاب الأول في سورية والثاني في العالم العربي، والذي شكّل سابقة نوعية، ومهّد لسلسلة انقلابات وصلت في عام واحد إلى ثلاثة متوالية، وأسست لحكم العسكر وسلطة الجزمة في غير بلد عربي.
في هذا السياق لا بد من طرح الأسئلة ورسم المشهد العام للخريطة الفكرية والسياسية التي شكّلت إرهاصات الوعي الديموقراطي الأول وأجّجت الحس الوطني المخدَّر، في القرنين التاسع عشر والعشرين، من أجل أن نرصد أعلام ذاك المشهد من المثقفين المستنيرين، ونرسم الصورة الواقعية لدورهم ومدى تأثيرهم الذي نجمع حصيده اليوم.
وتحضرني في هذا المقام شخصيتان سوريتان تركتا بصمات لافتة على تطوّر حركة النهضة العربية الحديثة هما عبدالرحمن الكواكبي في القرن التاسع عشر، وجورج طرابيشي في القرن العشرين. وللمصادفة فالعالمان يشتركان في مسقط الرأس: مدينة حلب، عاصمة الشمال السوري التي ترزح اليوم تحت قمع أعتى أشكال التوحّش الديني والعنف المتطرّف.
فالمفكر عبدالرحمن الكواكبي من أهم أعلام الفكر العربي ومن الآباء المؤسسين لدعائم الفكر الحداثي في المنظومة السياسية العربية لما بعد الاحتلالات الأجنبية (العثمانية ثم الأوروبية)، وأحد أبرز الذين صـــاغوا الفكر القومي العربي، وصاحب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستـــعباد" الذي يــعتبر من أمهات الكتب التي تحلّل ظاهرة الاستبداد السياسي وتعالجها. إلا أن الاستبداد بصيغته السياسية التي اختصّ الكواكبي بتشريحها والتأسيس لإسقاطها، كان تفاقم في غياب حركات للإصلاح الفكري، عريضة ومتّصلة، تغطي شريحة مجتمعية متجانسة شابّة وقادرة على تشكيل حركات شعبية تؤثر في المسار السياسي، وتساهم في تغيير منحى انجرافه نحو استبداد الدولة، ثم إرهابها الممنهج، كما يحدث في سورية الثورة منذ 2011.
فالفكر التنويري الذي حمله الكواكبي كان أقرب إلى الفضاء المفتوح الذي عليه أن يستوعب التيارات السياسية. ذلك أنه فكر جامع يُفترض أن يستوعب الكل، فكرٌ يطلق الحريات لعنان العقلاني المتحرر من لوثات الأصوليات السياسية والدينية، فكرٌ يؤسّس لحراك سياسي داخل المجتمع يهدف إلى تحرير الإنسان - الفرد من القيود السلطوية كافة، ومن الخطاب الديني الانعزالي وليس من النص الديني المفتوح واجتهاد المجتهدين.
والفكر التنويري للمثقفين المعاصرين، يُفترض أن يعترف أولاً بالتنوع الديني، ويهيِّء المناخ لأتباع الديانات كافة للتعايش بسلام في ظل مجتمع مدني يشدد على حرية الرأي والعقيدة، ويلتزم رعاية حقوق المواطنة، ويشجع الممارسة السياسية، ويدفع باتجاه نظم ديموقراطية برلمانية يرسم ويقيّد صلاحيتها الدستور، ويمكّن الإصلاحات الاجتماعية ودور المرأة في مجتمعها.
أما في الاقتصاد فالفكر التنويري يشدد على المنافسة الحرة، والسوق المفتوحة، وحق الملكيّة والشروع في الأعمال التجارية من دون قيود ومعوقات. فالحريتان السياسية والاقتصادية وجهان لعملة واحدة. وإن كان دين الدولة هو الإسلام فلا غضاضة في أن تنفصل العقيدة الإسلامية عن العمل السياسي، بل إن هذا الفصل يشدّد على علو الإسلام وينزهه عن الممارسات السياسية الملتوية والمتقلبة مقابل الثابت والأزلي في العقيدة الدينية.
كل ما تقدّم لم يمكن أن يتحوّل إلى فعل سياسي في ظل هيمنة الرجل المريض العثماني الذي كان يخطف بلاد الشام والرافدين تحت عباءة إمبراطوريته المترامية. كما لم تكن البيئة مهيأة لنشوء تيارات سياسية مواكبة لتلك الفكرية بسب القمع الذي كان يطاول أي ريح تهبّ لتحرّك الراكد اليومي. وهكذا مضت الشعوب العربية من استعمار إلى انتداب، وسط عزلة تامة للفكر الذي ولد بأعظم صوره وأبهى مرجعياتها.
والإسلام دين منفتح على كل التجارب والحضارات الإنسانية والعصور، وخير مثل دولة بني أمية في الأندلس وقد عمّرت وازدهرت في جنوب إسبانيا لما يقارب خمسة قرون. لكن فهم الإسلام تاريخياً من طرف الاستبداد الرسمي والظلامية التكفيرية هو الذي أساء إلى صورته، وسعى إلى تحويله أداة لتكريس الشمولية وقتل الاجتهاد.