الرئيسة \  واحة اللقاء  \  حلب والتراث العالمي!

حلب والتراث العالمي!

04.08.2016
د. طيب تيزيني


الاتحاد
الاربعاء 3/8/2016
تطفح الأحداث المأساوية في مدينة حلب، والتي تعود في وجودها إلى خمس عشرة سنة، فيومياً نسمع عن أحداث عظمى لا تطيح بالبشر فحسب، وإنما تطول التاريخ ذاته، تاريخ هؤلاء البشر، فالمسألة تتصل بالتحرش حتى الموت والاجتثاث التاريخي لمدينة ليست هي تراث السوريين العرب فحسب، بل تتصل كذلك بمعلم تاريخي عالمي يخص الإنسانية كلها، أما المفارقة الفاقعة فتتجسد في أن مَنْ يوجه سهامه الدموية إلى المدينة تلك، يفعل ذلك باسم الحضارة، وبالانطلاق من القرن الـ21.
تباً للحروب التي تُسقط رموز الحضارات ومَن يبدعها ويقف وراءها من البشر، والحق أن الحروب بالمنظور النفسي حالة من الحماقة المركبة تمحق أصحابها في حالات كثيرة، وكذلك المجتمعات التي تحترق بها، إضافة إلى مجتمعات أخرى قريبة أو بعيدة، أما من يشعلها افتئاتاً وظلماً فيجد نفسه أمام خراب يحصد ثماره مصالح ملوثة دنيئة. إن أصحاب هذه الثنائية بين المال والمصالح لا يأتون من الغيب، بل من طبقات وفئات اجتماعية لا تعيش إلا على حساب "الموت"، ويظهر من مراحل التاريخ المنصرمة أن الموت يبدو بصفته مُنتجاً لكل أو معظم المظلومين من البؤساء والمقهورين، بحيث يمكن القول بأن التاريخ العالمي إنما هو تاريخ هؤلاء، وأولئك الحاصدين مرارة الحياة، ما جعل بعض المؤرخين يقسمون ذاك التاريخ إلى مرحلتين: مرحلة الإنسان الوحشي ومرحلة الإنسان الإنساني.
إن ذلك كله جعل مؤرخين وباحثين ينحون نحو إدانة التاريخ العربي الذي دخل مرحلة "الحضارة" التي تعني أن "الإنسان العاقل" الذي جسد بداية إنساننا، إنما هو مَن تيقن استحداث الموت للآخرين، ما يعني أن الوحش هو الكائن المسالم والجدير بالقواعد والاحترام، ذلك لأنه لا يؤذي كائناً، إلا إذا فقد إمكانية تأمين طعامه، هكذا كان رواد النزوع الإنساني السلمي في تاريخنا، وازداد هذا النزوع في حالات الإخفاق البشري، بعد أن اندلعت ثورات قدمت نفسها على أنها "خاتمة الأحزان"، كما حدث مثلاً مع ثورة القرامطة والثورة الاشتراكية في روسيا، لكن بعد سقوط هاتين الأخيرتين وغيرهما في تاريخ الشعوب، عاد البشر للتساؤل فيما إذا كانت نشأة التاريخ الجديد "الحضاري" حالة من حالات "لوثة عقلية".
ويلاحظ أن تلك "اللوثة" تعمقت مع جرائم تجاوزت أعظم الحالمين بـ"إنسان عاقل كوني"، فهل من منفذ لنا إذا قلنا إن ذلك كله إن هو إلا أمثلة منفردة تزيح من الساحة أحلام نشوء إنسان يحافظ على إنسانيته بالتآخي مع "الآخر"!.
ما يحدث من الفظائع على أيدي سوريين، وآخرين أغراب، في حلب، يقدم أمثلة فاجعة على التهام المدن، أما مسوغ ذلك فيتمثل في استراتيجية لتقسيم سوريا. قد نقول إنها استراتيجية لا مستقبل لها، وإن حققت تقدماً أو آخر، ونحن نجد أنفسنا هنا أمام مثال تاريخي هو أن الوطن السوري واجه الاستعمار الفرنسي بكل جدارة، هذه الجدارة تأتي من صلب تاريخ هذا الوطن، وتتمثل في أن أجداده القريبين الممتدين في كل النسيج الاجتماعي المكوّن له.. كان الإجماع بينهم قوياً بما يكفي.
في هذا السياق يحسن التذكير بالرجال العظماء الذين رفضوا مشاريع التقسيم في حينه، وألحوا على أن ذلك ليس موقفاً سياسياً يمكن نقاشه. كانوا وحدويين دون مساومة مع الأجنبي، فدللوا على أن وطنهم السوري يعادل وجودهم، وقدموا مثالاً على الوفاء للوطن، خصوصاً بعد أن قُدمت إليهم مغريات لمصلحة طوائفهم، لذا كان التحول النوعي هو الإجماع الذي بلوروه بعقلانية ووطنية وبُعد نظر تاريخي، إضافة إلى الوفاء لوطن اكتشف "الأبجدية" اللغوية العقلانية، إذ في الاكتشاف عبروا عن ضمائرهم وأفكارهم ومصالحهم، وعن احترامهم لشعوب الأرض كلها.
وبعد انقضاء عقود على الاستقلال الوطني السوري، يؤسفنا ويؤلمنا القول بأن إنساناً سورياً يسعى لاستبدال جلده بجلد آخر!
--------------------
*أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق