الرئيسة \  واحة اللقاء  \  حول القوة وعقلانية الحرب

حول القوة وعقلانية الحرب

29.02.2016
حسن شامي



الحياة
الاحد 28-2-2016
فلنطرح على أنفسنا، وكأننا نفكر بصوت عالٍ، بعض الأسئلة المرمية على هامش الصخب والعنف المستعرين في طول المنطقة وعرضها. ما الذي يجيز التساهل مع فظاعات ترتكبها أو تتسبب بها قوى كبرى تنسب لنفسها انتهاج سياسات سيطرة وتدخل عقلانيَّين؟ تتفرّع من هذا السؤال أسئلة أخرى تتعلق بأشكال وتعبيرات هذا التساهل. وهي تعبيرات تتراوح بين اللامبالاة وبين التكيّف التعليمي مع الفظاعة إلى حد التطبيع. ومن حق أي كان أن يسأل: ما الذي يسمح ببقاء هذه القوى خارج المحاسبة أو باقتصار الحاجة إلى المساءلة والمحاسبة على دوائر صغيرة يوصف أصحابها بالحالمين والصارخين في الصحراء؟
ما يعنينا أكثر مسألة العلاقة المفترضة بين التساهل المشار إليه وبين الخواء المتعاظم والتذرر الزاحف لملء الفراغ الناجم عن انهيار الهياكل الوطنية في عدد من بلدان "الربيع" العربي.
نعلم مثلاً أن الحصار الاقتصادي الذي فرضته الإدارة الأميركية على العراق في التسعينات، تسبب بمقتل أكثر من نصف مليون طفل. ونعلم أن وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت اعتبرت بسينيكية ملغزة أن الكلفة البشرية الباهظة هذه لا تنتقص من قيمة الهدف المنشود، أي تجفيف وتصحير الأرض والكيان اللذين أقام عليهما صدام حسين سلطانه وسطوته. ثم جاءت سياسة "النفط مقابل الغذاء" لترميم الصورة ومعها مسلسل الفضائح التي طاولت المستفيدين بطريقة فاسدة وشبه مافيوية من هذه السياسة. البقية معروفة، بخطوطها العريضة في الأقل: الاجتياح الأميركي - البريطاني بقيادة بوش الابن وتوني بلير من دون غطاء قانوني دولي، مما أجاز تحطيم مكونات القدرة العراقية وهياكل الدولة ومؤسساتها العسكرية والمدنية بدعوى اجتثاث البعث، وهو أصلاً بلا حياة... ويفهم من هذا أن ما دعي الساخطون على سلطة صدام حسين، وهم غالبية العراقيين، إلى التأسيس عليه هو قاع صفصف. إنها الدرجة صفر في التاريخ. وليس للتاريخ صفر إلا في رؤوس صفرية. هذا، على أي حال، ما كان يفهمه المحافظون الجدد من مقولة "بناء الأمم".
بعد أقل من عقد على اجتياح العراق، وفي سياق الربيع العربي المتنقل والمرتطم في كل حالة بأثقال التاريخ الاجتماعي والوطني المضطرب لكل بلد، تستدعي الحالة الليبية بخوائها المتناسل والمزدهر أسئلة موازية للحالة العراقية. فقد حصل تدخل أطلسي بمبادرة فرنسية، وتحفظ أميركي، والحق يقال، أطاح بنظام معمر القذافي بدعوى إنقاذ سكان بنغازي من مجزرة معلنة. سنضع جانباً حسابات انتقام شخصي محتمل لرئيس معتد بنفسه مثل ساركوزي من طاغية يناور مع عواصم القرار الدولي باعتبارها مصدر الشرعية الرئيس لسلطته المطلقة. سنضع جانباً فهلويات مثقف فرنسي مقاول ودجال مثل برنار هنري ليفي الذي استوحى لعبته في ليبيا، وفق ما يقول، من قصة النبي يونس التوراتية. سنضع جانباً دور مصطفى عبدالجليل، المتواري عن الأنظار، والذي يفترض أن يكون قائد الجماهيرية الجديد. العقلانية السياسية تفترض احتمالين كبيرين. إما أن الرئيس الفرنسي كان واثقاً من أن خريطة القوى المناهضة للقذافي، لاعتبارات مختلفة، تمتلك مؤهلات بناء دولة مدنية ديموقراطية ثم تبين خطأ هذا الاعتقاد. وإما أنه كان يعرف جيداً طبيعة القوى والعصبيات المرشحة للتنازع المرير على حصص السلطة، بما في ذلك توافر ظروف مناسبة لازدهار الأصوليات الجهادية، من الطراز الداعشي أو غيره، مما يعني أن هذه المعرفة لم تمنعه من المقامرة بمصير بلد وكيان قائمين. في الحالة الأولى، يكون ساركوزي قد ارتكب خطأً يمكن الاعتذار عنه والسعي لتصحيحه. أما الحالة الثانية فهي أفدح بكثير.
الأمثولة الأخلاقية القائلة إن حجة الأقوى هي دائماً الأفضل والأكثر رجحاناً، وفق لافونتين، تحضر بقوة لدى مقاربة مسائل الحرب والسيطرة من منظار أخلاقي محض. غير أن هذه الأمثولة، على وجاهتها، لا تكفي لتفسير المسألة. فالقوة هنا لا تقتصر على الغلبة العارية، ويندر أن تقوم سلطة وتثبت من دون الاحتياج إلى شرعية ما، ومن دون ادعاء الحفاظ على نظام حقوقي معين يضبط حياة الناس ومعاملاتهم. في التاريخ الأوروبي، يعتبر القرن الثامن عشر من أفضل القرون لأنه الأقل حفولاً بالحروب. ففي هذه الحقبة حصلت عملية "عقلنة" للحرب انتزعتها من أيدي دعاة التعصب الديني وسلسلة حروبهم العبثية التي تقحم المقدس في كل المواجهات. هذه العقلنة التنويرية ترافقت مع تشكل رأي عام وازدهار الجمعيات والصالونات الأدبية والمنتديات الناشطة ذات التطلع الانساني العريض والمنفتح. لم يعد مقبولاً أن تكون الحرب "رياضة الملوك". غير أن انفجار القوميات الذي صاحب الاندفاع إلى تشكيل امبراطوريات متنافسة وتوسعية، خصوصاً عقب الثورة الفرنسية وسلسلة الحروب النابليونية التالية، نقل الحرب المقدسة من دائرة التعصب الديني إلى دائرة المصالح القومية وحاجتها إلى أسواق جديدة مع توسع الصناعة والمكننة وفائض الإنتاج.
بعبارة أخرى، حملت العقلانية المنتصرة وجهين مختلفين لفعل التوسع والانتشار العالميين. وجه القيم والمبادئ المستندة إلى الفكرة الانسانية والديموقراطية المتخففة من تراتبيات الولادة والنسب والعرق واللون، والصالحة بالتالي من حيث المنطلقات والأسس لكل المجتمعات البشرية. ووجه السيطرة القائمة على تقدير المصلحة، الاقتصادية وغيرها، والتي يمكن أن تشمل الأمة أو تحالف أمم أو شبكات نافذة في دوائر السلطة والمال. وقد ارتسم هذان الوجهان على طول الخط المؤسس والحاضن للحداثة الغربية عموماً.
هذا الازدواج هو في صلب الحربين الكبيرتين في القرن العشرين. وليست صفتهما العالمية إلا القيمة المضافة لاتساع النموذج الغربي بحيث طاول ولا يزال العالم كله. والحق أن قسماً بارزاً من تاريخنا السياسي الحديث هو عبارة عن ردود مختلفة، سلباً أم إيجاباً، على تحديات فرضتها التباسات الحداثة الغربية. والمقصود بالالتباس هو إمكانية وضع القيم والمبادئ في خدمة المصالح الضيقة وشبكات السلطة والنفوذ.
هناك بالطبع اعتقاد بأن الناخبين في الدول والمجتمعات الديموقراطية سيقومون بمحاسبة قادتهم ومساءلتهم على نتائج السياسات التي حبذوها.
هذا الاعتقاد يحتمل هو أيضاً الاستخدام السينيكي والديموغاجي: كن ديموقراطياً ذا مشهدية انتخابية وافعل ما تشاء. وهذا ما فعلته حرفياً الحكومات الإســرائيلية المتعاقبة بالفلسطينيين. أي تحويلهم إلى فائض بشري ينبغي إنقاذ الديموقراطية الإسرائيلية من أعبائه. المحنة السورية بدأت في العراق وليبيا.