الرئيسة \  واحة اللقاء  \  حين يكشف (تشبيح) روسيا الأزمة السياسية والأخلاقية الغربية

حين يكشف (تشبيح) روسيا الأزمة السياسية والأخلاقية الغربية

21.04.2014
د. وائل مرزا


المدينة
الاحد 20/4/2014
حين يكشف (تشبيح) روسيا الأزمة السياسية والأخلاقية الغربيةربما كان من فضائل الثورة السورية أنها سهلت على الناس فهم السياسة الدولية من خلال مصطلح (التشبيح).
فلاديمير بوتين، قيصر روسيا الجديد، شبيحٌ دوليٌ بامتياز.. يشتري الولاءات، ويُحرك عملاءه في مختلف أنحاء أوكرانيا من القرم إلى دينتسك مرورًا بماريوبول وغيرها من المدن والمناطق.
يصادر حق الشعب الأوكراني في تقرير مصيره السياسي، فيتحدث باسمه ليلغي شرعية الحكومة الأوكرانية بكل بساطة قائلًا: "نعتبر اليوم السلطات الأوكرانية غير شرعية، وليس بإمكانها أن تكون شرعية إذ لم تحصل على تفويض وطني شامل لإدارة البلاد".
يمارس الكذب بكل وقاحة وجرأة، فيؤكد أن كل الأحاديث عن "يد موسكو" في شرق أوكرانيا وغيرها هي مجرد هراء، رافضا بشكلٍ مطلق وجود أية قوات روسية أو أجهزة خاصة أو خبراء في شرق أوكرانيا، ومؤكدًا أن من يتحرك هم مجرد مواطنين محليين لا يستطيعون ترك أراضيهم ويجب إجراء الحوار معهم.
هكذا، بكل بساطة، يتمكن المواطنون البسطاء من وقف رتلٍ من المدرعات الأوكرانية، ومن احتلال ثكنات عسكرية في مناطق متفرقة من البلاد، والسيطرة على مباني البلدية في مدينة ماريوبول المرفئية الصناعية ورفع أعلام روسيا وإعلان جمهورية "دونيتسك" فيها.
يُطلق هذه الادعاءات في حين يعرف كل متابع قريب من الواقع أن غالبية من يتحرك هم عمليًا مجموعات جنود من قوات النخبة الروسية، تمامًا على غرار المجموعات التي نشطت في القرم قبل ضمها إلى روسيا الشهر الماضي.
يمارس البلطجة مؤكدًا أن الجزء الأكبر من سفن أسطول البحر الأسود الروسي سينقل من مدينة نوفوروسيسك إلى مدينة سيفاستوبل التي كانت من أهم مدن أوكرانيا واستولت عليها روسيا مؤخرًا.
يلعب لعبة توزيع الأدوار، فيطلب من وزير خارجيته عقد اتفاق مع كيري في جنيف لحل الأزمة، ويوحي لعملائه في أوكرانيا بالتنصل من الاتفاق بشكلٍ كامل بدعوى أنهم ليسوا معنيين بها ولم يوقعوا عليها.
لا يكتفي الشبيح العالمي الجديد بأوكرانيا بل يتدخل في مولدوفيا ويوجه تحذيرًا لحكومتها طالبًا منها أن تُعطي منطقة ترانسندستريا الانفصالية فيها حق تقرير المصير.
يمارس المناورات السياسية المُبتذلة، فيهدد أوروبا بقطع شريان حياتها من الغاز، ولكن باسم خلافٍ على الأسعار مع حكومة أوكرانيا.
يستخدم الفاسدين لتوظيف الهياكل القضائية والتشريعية لتحقيق أهدافه، فيُحرك بعض المرتزقة من نواب (الدوما)، فيطلب هؤلاء فتح التحقيق في الأسباب التي أدت إلى تفكيك الاتحاد السوفييتي، ومعرفة الأشخاص الذي كانوا وراء ذلك!..
يستعمل التهديد والوعيد فيقول في لقائه (المفتوح) مع المواطنين: "حلف شمال الأطلسي لا يخيفني.. يمكننا بأنفسنا أن نخنقهم جميعًا، لماذا أنتم خائفون؟".. "آملُ ألا أضطر إلى استخدام حقي في إرسال قوات عسكرية إلى أوكرانيا".
بمثل هذه العبارات يعلن قيصر روسيا الجديد ولادة حقبةٍ جديدة في العلاقات الدولية.. لا يعني هذا قدرة روسيا على السيطرة والتحكم في هذه الحقبة، فهذه درجةٌ من المبالغة والتهويل. كل ما في الأمر أنها ستتمكن أكثر من لعب دورٍ (تشبيحي) متزايد على الصعيد الدولي في هذه الحقبة. فكل المؤشرات تدل على ذلك.. المفارقة الأكبر أن واقع النظام الدولي السائد هو الذي يسمح بهذه العملية، وأن ممارسات روسيا وقيصرها تكشف سوءات هذا النظام ومشكلاته العميقة سياسيًا وأخلاقيًا، وربما اجتماعيًا وثقافيًا.
والذي يسمع ردود أفعال الأوربيين والأمريكان على قرارات بوتين وتصريحاته يعتقد أن هؤلاء ينتمون لجمهوريات الموز. فعلى مدى أسابيع طويلة، ينتقل المسؤولون في القارتين من تحذيرٍ إلى تحذير بتشديد العقوبات، دون أي مصداقيةٍ لتهديداتهم المتكررة.
فقد صرح دبلوماسي أمريكي رافق كيري في رحلته الأخيرة لجنيف أن الرئيس الأمريكي "كان واضحًا جدًا بأنه إذا لم تغتنم روسيا هذه الفرصة لتخفيف التوتر فإن الثمن الذي سيتعين عليها دفعه سيرتفع". والحقيقة أن أوباما نفسه لم يقصر في ممارسة التهديد بالثبور وعظائم الأمور، إذ قال في مقابلة مع شبكة "سي بي سي نيوز": إنه في كل مرة تتخذ فيها روسيا إجراءات تهدف إلى زعزعة استقرار أوكرانيا وانتهاك سيادتها ستكون هناك عواقب". المضحك المبكي أن الرجل قلَّل من احتمالات مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة وروسيا على خلفية تصاعد التوتر في أوكرانيا، ليس بسبب افتقاد الإرادة والقدرة لدى أمريكا المتراجعة، بل لأن روسيا لا تريد أن تخوض حربًا مع الولايات المتحدة لعلمها بتفوق الجيش الأمريكي، كما قال!..
أما الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند فقد (هدد) الخميس أن الاتحاد الأوروبي يبحث تشديدًا لعقوباته في حال فشل محادثات جنيف. في حين أكدت كاثرين آشتون، مسؤولة الشوون الخارجية في الاتحاد الأوربي أن النقاشات مع الروس كانت "بناءةً وصريحة".
وأخيرًا، لم يجد رئيس المفوضية الأوربية ما يفعلهُ، بعد الموافقة على إجراء محادثات مع روسيا حول الغاز، أكثر من التحذير بأن "مصداقيتها كمصدرٍ للطاقة ستكون على المحك" بعد تهديدها بوقف الإمدادات.
لا عجبَ، مع كل هذا التهديد والوعيد الفارغ، أن تدرك روسيا أن تشبيحها مؤثرٌ وناجح، وأنها تتعامل فعلًا مع منظومةٍ دوليةٍ بدأت تهترئ من الداخل.
ثمة تحليلٌ شاملٌ ومُعبر يُفسر الظاهرة نشره منذ أسابيع الكاتب والصحفي Ben Judah في موقع Politico الإخباري الأمريكي، وهو يشرح كيف تحوّل المسؤولون الأوربيون والأمريكان إلى قطط وديعة ترجو وُدّ الدب الروسي، لأن الأمر يتعلق في نهاية المطاف بمصالح اقتصادية كبرى، خاصة وعامة، لا مجال معها للحديث عن المبادئ. يكفي كمثالٍ واحد فقط تسريبُ وثيقةٍ من مقر رئاسة الوزراء في بريطانيا مفادها أن الحكومة ستحتج وتشجب، ولكنها ستتجنب أي إشارة لأي تجميد للأموال الروسية.
ليس المقامُ هنا مقام الاستمتاع بهجاء الغرب، والشعور بالراحة النفسية من شتمهِ كما يحصل كثيرًا في ثقافتنا العربية والإسلامية.
ولاشك أن في هذا الواقع الدولي خسارةً على المدى المنظور للدول والشعوب التي تبحث عن حقها في الحياة بعزٍ وكرامة. لكن ما يجري مؤشرٌ على أزمةٍ إنسانيةٍ كبرى لن تكون الدول الغربية نفسها بمنجى من تَبِعاتها.
الأهمﱡ من ذلك، قد يمثل هذا الواقع المدخلَ الوحيد الذي يقنع تلك الدول والشعوب بأن عملها وإنجازها هو، وهو وحدهُ، الذي سيصنع مصيرها في نهاية المطاف.