الرئيسة \  واحة اللقاء  \  خطوط سياسة "أولاند" الخارجية

خطوط سياسة "أولاند" الخارجية

06.09.2014
باسكال بونيفاس



الاتحاد
الخميس 4-9-2014
مع اقتراب منتصف فترة ولاية فرانسوا أولاند الرئاسية التي تمتد لخمس سنوات، وفي لحظة انعقاد اللقاء التقليدي للسفراء الفرنسيين في الخارج، يبرز سؤال بالغ الأهمية: أية حصيلة (مؤقتة) يمكن استخلاصها لسياسته الخارجية، وتحركاته على الساحة الدولية؟
إن الأكثر أهمية في هذه التحركات قد لا يكون، للمفارقة، هو الأكثر جاذبية ومشهدية، ولذا فلا يكاد الجمهور العريض يلحظه. وقد كان فرانسوا أولاند، الرجل التوافقي، المحب للسلام والمصالحة، راغباً منذ البداية في إعادة ترميم العلاقات مع عديد من البلدان، التي تعرضت علاقة فرنسا معها للضرر بسبب الأسلوب الناري، بالغ الحدة، وفي كثير من الأحيان المؤدي لاختلاق الخصوم، الذي كان يتبعه نيكولا ساركوزي. وقد رأت فرنسا علاقاتها، في عهده، وهي تتردى مع دول بازغة مهمة وشركاء محتملين مثل: المكسيك (بسبب قضية فلورانس كاسيز، [الفرنسية التي اعتقلت وحوكمت هناك ضمن أطوار واتهامات معقدة ومثيرة للجدل])، وتركيا (للوقوف ضد عضويتها في الاتحاد الأوروبي، لكونها دولة مسلمة)، ومع اليابان (بفعل التصريحات التي اعتبرت مسيئة ومزدرية حول رياضة السومو)، ومع الصين (بسبب زيارات الدالاي لاما، جيئة وذهاباً)، ومع البرازيل (على خلفية رفض الوساطة في الملف النووي الإيراني)، ومع الهند.. الخ. هذا طبعاً دون الحديث عن العديد من الشركاء الأوروبيين المتضايقين للغاية من طريقة وأساليب عمل الرئيس السابق ساركوزي.
وعلى هذه الخلفية الصعبة أراد أولاند ابتداءً خلق شراكة استراتيجية مع الدول البازغة الكبيرة، وخاصة من أجل جذب استثماراتها إلى فرنسا. وبصفة عامة تقوم الفكرة على ضرورة تنمية وتطوير العلاقات مع دول مجموعة الـ20 في إطار دبلوماسية اقتصادية مجددة. وقد التقى أولاند عملياً كل قادة مجموعة دول منطقة آسيا- المحيط الهادي. تماماً مثلما أن رئيس حكومته السابق جان- مارك آيروت قد تنقل هو أيضاً كثيراً في تلك المنطقة، وكذلك فعل وزير الخارجية لوران فابيوس، ووزير الدفاع جان- إيف لودريان.
وتبدو القدرة الفرنسية على التصرف بقوة في مواجهة الأزمات أكثر وضوحاً، وفي هذا السياق يأتي التدخل في جمهورية مالي رمزاً كاشفاً لتوجهات السياسة الخارجية. فقد كان الذهاب إلى هناك تدخلاً في ظروف تحمل مخاطر جسيمة (ولنتذكر هنا التعليقات الكارثية الأولى) ولكن تم كسب الرهان عسكرياً وسياسياً، في النهاية. ويبقى الآن المجهول فقط من عناصر المعادلة، وهو مستقبل التنمية الاقتصادية في مالي، وهذه مهمة بعيدة عن أن تكون منوطة بفرنسا وحدها. والحال أن فرنسا عرفت كيف تتصرف بسرعة منفردة، ولكن بعد تلقي ضوء أخضر عالمي. وكان الوضع أيضاً في جمهورية أفريقيا الوسطى مشابهاً.
وقد تساءل البعض عما إذا كانت فرنسا، التي أصبحت تتبنى نزعة تدخلية عسكرية، قد شهدت بالفعل منعطفاً سياسياً نحو توجهات "المحافظين الجدد"؟ والحال أن هذا غير وارد، وذلك لأن الفرق كبير، ويكمن في احترام فرنسا لمبادئ وأسس القانون الدولي، حيث إنها في كل تدخلاتها الخارجية لا تحرك ساكناً قبل التصويت الإيجابي على التحرك في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهذا ما يميز التدخلات العسكرية الفرنسية عن غيرها. وقد يكون التقارب الملحوظ مع واشنطن هو ما غذى أساساً نبرة الحديث عن منعطف يميني- محافظ، تعرفه فرنسا!
ومن وجهة نظر واشنطن تتمتع فرنسا بثلاث مزايا ونقاط قوة هي: قدرة على التحرك الاستراتيجي والعسكري الشامل، تستند إلى كفاءة تمتد من الاستخبارات إلى القوة النووية. وقدرة على اتخاذ القرار، مع توافر الإرادة في تنفيذه. ولكن إلى جانب نقاط القوة هذه هنالك أيضاً سلبيات، حيث يمكن التساؤل عما إن كانت فرنسا قد حلت بالفعل محل المملكة المتحدة كحليف مفضل لواشنطن، وهو أمر قد يشعر حياله البعض بالارتياح، وفيه ضمناً تبعية، لا تحمل في الواقع قسمات ومورّثات الدبلوماسية الفرنسية المعتادة. وهذا قد يحبط ويغير مواقف دول أخرى تنتظر من فرنسا دوراً مختلفاً، وخاصة في فترة يتفشى فيها الشك الدولي حول توجهات واشنطن على نطاق واسع.
وجاءت قضية تنصت وكالة الأمن القومي الأميركية التي كشفت عنها تسريبات سنودن، وقد أظهرت هي أيضاً رغبة فرنسية في عدم صب الزيت على نار الخلافات مع الولايات المتحدة. وقد قرر أولاند علاج الخلافات مع واشنطن بكياسة، بلا مبالغة خطابية، ودون حاجة إلى المضي بعيداً في رفع العقيرة. وبطبيعة الحال لم يكن أي من ديغول، وميتران، وحتى شيراك، ليتصرف بهذه الطريقة.
وفي الشرق الأوسط، كان موقف فرنسا في حالة مد في الملف السوري، وفي حالة جزر في الملف الإسرائيلي- الفلسطيني. وبطبيعة الحال كان من المستحيل رفع حالة الانسداد والشلل في مجلس الأمن بشأن سوريا، ويبدو المجتمع الدولي كله، في حالة عجز مطبق تجاه الملفين معاً.
والراهن أن أوروبا لم تعد تلعب على الصعيد الاستراتيجي دوراً داعماً للقوة الفرنسية، وإنما، على العكس من ذلك، تلعب دوراً مخدراً وكابحاً لأي اندفاع. وفي الشرق الأوسط، وفي مواجهة روسيا، والعلاقات مع الولايات المتحدة، تبدو الأولوية اليوم للجهود الرامية للخروج بموقف أوروبي مشترك. ويقع هذا طبعاً بثمن هو تلاشي خصوصية ونكهة الموقف الفرنسي. وهنا يجب تخفيف الضغط على الفرامل، وعدم الخشية من تأكيد تميز المواقف الفرنسية الخاصة، لأنها يمكن أن تجد من الأصداء في العالم، أكثر مما تجد في أوروبا نفسها. وكانت زيادة الوعي بالتعددية القطبية الاقتصادية على صعيد عالمي قد ترافقت مع إعادة تركيز للاستراتيجية الفرنسية على الغرب بالذات.
وفي المجمل يمكن القول إن أولاند لم يأخذ في سياساته منعطفاً محافظاً جديداً، ولكنه لم يعد يقف أيضاً أبداً على الخط الديغولي- الميتراني. وأولاند البراغماتي، لا يحب أن يبقى حبيساً في المفاهيم والتصنيفات السياسية التقليدية، بل يبدو في تحلله من كل ذلك كتقويم سياسي قائم بذاته. ولكن هذا لا يعفي أيضاً من ضرورة تحديد رؤية شاملة للعالم، ومكانة فرنسا فيه، وذلك لأن الجميع ينتظر منها أن تلعب، من جهتها، دوراً ذي خصوصية مميزة في هذا العالم.