الرئيسة \  واحة اللقاء  \  دروس من وباء عام 1918

دروس من وباء عام 1918

16.04.2020
د. أحمد موفق زيدان



العرب القطرية
الاربعاء 15/4/2020
يظل التاريخ هو الحكم بين البشرية، ليس في مجالات السياسة والاقتصاد والإدارة فحسب، وإنما حتى في المجال الطبي حديث الساعة اليوم، والذي استُدعي على عجل خلال هذه الأزمة، فبدأ العلماء ينبشون دفاتره القديمة، يستذكرون تاريخ تفشي الأوبئة في سابق العهد والزمان، وطرق مواجهتها، سيما في ظل عجز العلم عن فهم فيروس "كوفيد - 19"، وبالتالي فخط الدفاع الأول هو نفسه الذي كان قبل قرون، أولى هذه الخطوات تتمثل في إجراءات التباعد الاجتماعي.
تروي لنا كتب التاريخ أن أول حالة ظهرت في وباء إنفلونزا 1918، كانت حالة الكوليرا في فيلادلفيا بأميركا في 17 أكتوبر 1918، وتفشت الكوليرا يومها كانتشار النار في الهشيم، وهو ما حصد حتى عام 1920 أكثر من خمسين مليون شخص، في أميركا وإسبانيا وبريطانيا ودول غربية أخرى، ويتضح من السجلات التاريخية لتلك الأيام، أن المدن التي التزمت بحظر التجوال ونظرية التباعد الاجتماعي، كان تفشي المرض فيها أقل من النصف مقارنة بالمناطق التي لم تلتزم به، وقد دفع هذا المسؤولين يومها إلى إغلاق كل المرافق العامة مثل الكنائس والمدارس وأماكن التجمعات العامة، وأقدمت شرطة سان فرانسيسكو على إرغام الناس بالقوة على التزام بيوتها، حتى أطلقت ذات مرة النار على ثلاثة أشخاص لرفضهم ارتداء الأقنعة الطبية المفروضة.
ولوحظ أن المدن التي رفعت حظر التجوال بعد شهرين، قد عادت فيها الحالات للظهور مجدداً، بينما المدن التي طبقت حظر التجوال لفترة أطول من هذه لم تظهر فيها الحالات ثانية.
كان وباء جوستينان الذي تفشى في القرن السادس الميلادي قد حصد بدوره أكثر من خمسين مليون شخص، أما الوباء الذي امتد لعقد كامل بين عامي 1347 ـ 1357، فقد تمكن يومها من قتل 200 مليون شخص، أما ما أطلق عليها بالسلالة السابعة من وباء الكوليرا، فقد أبادت ملايين البشر، والتي بدأت في عام 1817 لتستمر عدة سنوات.
في غياب العلاج حتى الآن، ليس أمام البشرية اليوم إلا تطبيق إجراءات واحترازات 1918- 1920، وهو ما نصح به عالم الأوبئة في جامعة كولومبيا ستيفن مورس، بأنه مع العجز حتى الآن عن العثور على المصل، فإن "الدرس الذي ينبغي الاستماع له والالتزام به هو درس وباء 1918، وهو ما سيجنّبنا تكرار ما حلّ يومها، ألا وهو التباعد الاجتماعي والتزام البيوت".
أهم درس تعلمناه من وباء "كوفيد - 19" هو ما ذكرته مجلة "التايم" الأميركية عام 2017، وهو أن العالم ليس مستعداً للوباء، واليوم يتأكد لنا جميعاً أن العالم أجمع لم يكن مستعداً، فلا الأجهزة الأمنية الحريصة على التجسس على الشعوب كانت قادرة بالحماس والنشاط نفسه على التجسس لصالحها، لتتنبأ علمياً بهذا الوباء، ولا حتى مراكز الدراسات توقعت أو نجحت في إيجاد المصل له.
حتى اليوم أكثر من مائة ألف ماتوا بسبب هذا الوباء، وأكثر من مليون ونصف المليون أصيبوا به، وهي البداية على ما يبدو، والحل هو ليس بالترويج للمرض بشكل يصيب الناس بالهلع والخوف والقلق، ليتحول إلى فوبيا، وهو في الواقع أخطر من الوباء ذاته، فلا بدّ من توعية الناس بأن العلاج ليس بالتعلق بالمصل والدواء ولغة الأرقام، وإنما بأخذ الإجراءات الشخصية، بالتزام البيوت وبالتباعد الاجتماعي، وتقليل السفر إلى حالة العدم. لأول مرة تجد البشرية نفسها في العصر الحديث أمام عدو مشترك واحد، ولأول مرة نجد فيالق الأطباء والممرضين هم الجنود والضباط في حرب مفتوحة لحماية الإنسان، ليتراجع معه دور المقاتلين وأسلحتهم المدججة، إلا الذين ما زالت شهيتهم وولعهم يدغدغانهم، فلم يتمكن "كوفيد - 19" من إلزامهم ثكناتهم، فيواصلون هواية القتل والتدمير في سوريا وليبيا وغيرهما.
الحرب اليوم ضد عدو غير مرئي، فلا تنفع معه كل الأسلحة المتطورة التي ابتكرها الإنسان لقتل أخيه الإنسان، بعد أن عجز أو رفض أن ينفق 1% على الكشف عن هذا الفيروس، مقارنة بما أنفقه على قتل البشرية وإبادتها، وصدق العلي العظيم القائل: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً".